﴿وحاجه قومه﴾ أي : خاصموه في التوحيد وهددوه بالأصنام أن تصيبه بسوء إن لم يرجع عن الكلام فيها ﴿قال﴾ لهم ﴿أتحاجوني﴾ أي : أتجادلونني ﴿في الله﴾ أي : في وحدانيته، وقرأ نافع وابن عامر بتخفيف النون وهي نون الرفع عند النحاة ونون الوقاية عند الفراء، والباقون بالتشديد ﴿وقد﴾ أي : والحال إنه قد ﴿هداني﴾ إلى توحيده ومعرفته ﴿ولا أخاف ما تشركون به﴾ شيئاً وذلك إن إبراهيم لما رجع إلى أبيه وصار من الشباب بحالة سقط عنه طمع الذباحين أي : ذباحي نمروذ وضمه آزر إلى نفسه وجعل آزر يصنع الأصنام ويعطيها لإبراهيم ليبيعها فيذهب بها إبراهيم وينادي من يشتري ما يضره ولا ينفعه ؟
فلا يشتريها أحد فإذا بارت عليه ذهب بها إلى نهر فصوب رؤوسها وقال : اشربي استهزاء بقومه وما هم عليه حتى فشا استهزاؤه بها في قومه وأهل قريته فقالوا له : احذر الأصنام فإنا نخاف أن تمسك بخبل أو جنون بعيبك إياها فقال : إنما يكون الخوف ممن يقدر على النفع والضر وهو قوله تعالى :﴿إلا أن يشاء ربي شيئاً﴾ وهذا استثناء منقطع معناه لكن إن شاء ربي شيئاً من المكروه يصيبني فيكون لأنه قادر على النفع والضر وإنما قال إبراهيم ذلك لاحتمال إنّ الإنسان قد يصيبه في بعض حالاته وأيام عمره وما يكرهه فلو أصابه مكروه نسبوه إلى الأصنام فنفى هذه الشبهة بذلك ﴿وسع ربي كل شيء علماً﴾ أي : أحاط علمه بكل شيء من معلومه ﴿أفلا تتذكرون﴾ أي : يقع منكم تذكر فتميزوا بين الحق والباطل والقادر والعاجز.
﴿وكيف أخاف ما أشركتم﴾ به أي : الأصنام وهي لا تبصر ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع
٥٠٠
﴿ولا تخافون﴾ أنتم ﴿أنكم أشركتم با﴾ وهو تعالى حقيق بأن يخاف منه كل الخوف لأنه إشراك للمصنوع مع الصانع وتسوية بين المقدور العاجز والقادر الضارّ النافع ﴿ما لم ينزل به﴾ أي : بعبادته ﴿عليكم سلطاناً﴾ أي : حجة وبرهاناً وهو القادر على كلّ شيء ﴿فأيّ الفريقين﴾ أي : حزب الله وحزب ما أشركتم ولم يقل فأينا تعميمها للمغنيّ ﴿أحق بالأمن﴾ أهم الموحدون أو المشركون ﴿إن كنتم تعلمون﴾ من الأحق أي : إن كان لكم علم فأخبروني عما سألتكم عنه والأحق بذلك هم الموحدون فاتبعوهم قال تعالى قاضياً بينهما :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٩٧
﴿الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم﴾ أي : لم يخلطوا إيمانهم بشرك.
روي أنه لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين فقالوا :"يا رسول الله فأينا لم يظلم نفسه فقال :"ليس ذلك إنما هو الشرك ألم تسمعوا إلى ما قال لقمان لابنه :﴿يا بني لا تشرك با إنّ الشرك لظلم عظيم﴾ (لقمان، ١٣)
" ﴿أولئك﴾ أي : الموصوفون بما ذكر ﴿لهم الأمن﴾ أي : من العذاب المؤبد ﴿وهم مهتدون﴾ وقوله تعالى :
﴿وتلك﴾ مبتدأ ويبدل منه ﴿حجتنا﴾ وهي ما احتج به إبراهيم على قومه من قوله تعالى :﴿فلما جنّ عليه الليل﴾ إلى قوله :﴿وهم مهتدون﴾ أو من قوله تعالى :﴿أتحاجوني﴾ إليه والخبر ﴿آتيناها إبراهيم﴾ أي : أرشدناه لها حجة ﴿على قومه﴾ ثم إنه سبحانه وتعالى لما تفضل على خليله ﷺ برفعه على قومه قال تعالى :﴿نرفع درجات من نشاء﴾ في العلم والحكمة، وقرأ
٥٠١
عاصم وحمزة والكسائي بتنوين التاء، والباقون بغير تنوين ﴿إنّ ربك حكيم﴾ في صنعه فيرفع من يشاء ويخفض من يشاء ﴿عليم﴾ بخلقه فهو الفعال لما يريد.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٠١
ووهبنا له﴾
أي : إبراهيم ﴿إسحق﴾ أي : ابناً له ﴿ويعقوب﴾ أي : ابناً لإسحاق فهو ابن ابنه ﴿كلاً﴾ منهما ومن أبيهما ﴿هدينا﴾ إلى سبيل الرشاد ووفقناه إلى طريق الحق والصواب ﴿ونوحاً هدينا﴾ ﴿من قبل﴾ أي : قبل إبراهيم ﴿ومن ذريته﴾ أي : نوح لا إبراهيم لأنه تعالى ذكر في جملتهم يونس ولوطاً ولم يكونا من ذرّية إبراهيم، وقيل : الضمير لإبراهيم ويكون ذلك من باب التغليب فإنّ التغليب سائغ شائع في انتساب العرب ﴿داود﴾ وهو ابن إيشا هديناه وكان ممن آتاه الله الملك والنبوّة ﴿وسليمان﴾ هو ابن داود وهما اللذان بنيا بيت المقدس بأمر الله تعالى داود بخطه وتأسيسه وسليمان بإكماله وتشييده ﴿وأيوب﴾ هو ابن أموص بن رزاح بن روم بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم ﴿ويوسف﴾ هو ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.
فإن قيل : لم قدم أيوب على يوسف مع أنّ يوسف أقرب منه ؟
أجيب : بأنه قدمه للمناسبة بينه وبين سليمان لأنّ كلاً منهما ابتلي بأخذ كل ما في يده ثم ردّه الله تعالى إليه ﴿وموسى﴾ هو ابن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب ﴿وهرون﴾ هو أخو موسى أكبر منه بسنة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ﴿وكذلك﴾ كما جزينا إبراهيم على توحيده وصبره على أذى قومه بأن رفعنا درجته ووهبنا له أولاداً أنبياء ﴿نجزي المحسنين﴾ على إحسانهم.


الصفحة التالية
Icon