﴿و﴾ يقال لهم إذا بعثوا للحساب والجزاء ﴿لقد جئتمونا فرادى﴾ أي : منفردين عن الأهل والمال والولد وسائر ما آثرتموه من الدنيا أو عن الأعوان والأوثان التي زعمتم أنها شفعاؤكم وهو جمع فرد والألف للتأنيث ككسالى وفي هذا تقريع وتوبيخ لهم لأنهم صرفوا هممهم في الدنيا إلى تحصيل المال والولد والجاه وأفنوا أعمارهم في عبادة الأصنام فلم يغن عنهم ذلك شيئاً يوم القيامة فبقوا فرادى عن كل ما حصلوه في الدنيا ﴿كما خلقناكم أوّل مرّة﴾ أي : حفاة عراة، غرلاً، روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قرأت هذه الآية فقالت يا رسول الله واسوأتاه إنّ الرجال والنساء يحشرون جميعاً ينظر بعضهم إلى سوأة بعض فقال رسول الله ﷺ "لكلّ امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال" وروي عنها أنها سمعت رسول الله ﷺ يقول :"يحشر الناس حفاة عراة غرلاً" أي : غير مختونين، وفي رواية زيادة على ذلك بهما، قال الجوهري وغيره : أي : ليس معهم شيء، قالت عائشة رضي الله عنها : فقلت : الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض فقال رسول الله ﷺ "الأمر أشدّ أن يهمهم ذلك" ﴿وتركتم ما خوّلناكم﴾ أي : ما تفضلنا به عليكم في الدنيا فشغلتم به عن الآخرة ﴿وراء ظهوركم﴾ أي : في الدنيا فما أغنى عنكم ما كنتم منه تستكثرون ﴿و﴾ يقال لهم توبيخاً ﴿ما نرى معكم شفعاءكم﴾ أي : الأصنام ﴿الذين زعمتم أنهم فيكم﴾ أي : في استحقاق عبادتكم ﴿شركاء﴾ أي : لله وقوله تعالى :﴿لقد تقطع بينكم﴾ قرأه نافع وحفص والكسائيّ بنصب النون أي : لقد تقطع ما بينكم من الوصل، والباقون بالرفع أي : لقد تقطع وصلكم والبين من الأضداد يستعمل للوصل والفصل ﴿وضلّ﴾ أي : ذهب ﴿عنكم ما كنتم تزعمون﴾ أي : من أنها شفعاؤكم أو أن لا بعث ولا جزاء.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٠٣
٥٠٦
﴿إن الله فالق﴾ أي : شاق ﴿الحبّ﴾ أي : عن النبات ﴿والنوى﴾ أي : عن النخل وقيل : المراد الشق الذي في الحنطة والنواة، والحبّ جمع الحبة وهو اسم لجميع البزور والحبوب من البرّ والشعير والذرة وكل مالم يكن له نوى والنوى جمع نواة وهي كل ما لم يكن حباً كالتمر والمشمس وغيرهما، وقال الضحاك : فالق الحبّ والنوى يعني خالق الحبّ والنوى ﴿يخرج الحيّ من الميت﴾ أي : كالإنسان من النطفة والطائر من البيضة ﴿ومخرج الميت من الحيّ﴾ كالنطفة من الإنسان والبيضة من الطائر.
تنبيه : مخرج معطوف على فالق كما قاله الزمخشريّ ويصح عطفه على يخرج لأن عطف الاسم المشابه للفعل على الفعل صحيح كعكسه وهو عطف الفعل على الاسم الشبيه بالفعل كقوله تعالى :﴿إن المصدّقين والمصّدقات وأقرضوا الله قرضاً حسناً﴾ (الحديد، ١٨)
فأقرضوا معطوف على المصدّقين لشبهه بالفعل لكونه اسم فاعل ومخرج شبيه بالفعل لكونه اسم فاعل، وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائيّ بتشديد الياء، والباقون بالتخفيف ﴿ذلكم﴾ المحيي والمميت، هو ﴿ا﴾ الذي تحق له العبادة ﴿فأنى﴾ أي : فكيف ﴿تؤفكون﴾ أي : تصرفون عن الحق فتعبدون غير الله الذي هو خالق الأشياء، كلها، وقوله تعالى :
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٠٦
فالق الإصباح﴾
مصدر بمعنى الصبح أي : شاق عمود الصبح وهو أوّل ما يبدو من النهار عن ظلمة الليل أو شاق ظلمة الأصباح وهو الغبش الذي عليه في آخر الليل ﴿وجاعل الليل سكناً﴾ أي : يسكن فيه الخلق راحه لهم، قال ابن عباس : إذ كل ذي روح يسكن فيه لأنّ الإنسان قد أتعب نفسه فاحتاج إلى زمان يستريح فيه ليسكن فيه عن الحركة وذلك هو الليل، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بنصب العين واللام ولا ألف قبل العين على الماضي حملاً على معنى المعطوف عليه فإن فالق بمعنى فلق، والباقون بكسر العين ورفع اللام وألف قبل العين وقوله تعالى :﴿والشمس والقمر﴾ منصوبان بإضمار فعل دلّ عليه جاعل الليل أي : وجعل الشمس والقمر ﴿حسباناً﴾ أي : حساباً للأوقات أو الباء محذوفة وهو حال من مقدر أي : يجريان بحسبان كما في
٥٠٧
آية الرحمن وقوله تعالى :﴿ذلك﴾ إشارة إلى ما تقدّم ذكره في هذه الآية من الأشياء التي خلقها بقدرته وكمال علمه وهو المراد بقوله :﴿تقدير العزيز العليم﴾ فالعزيز إشارة إلى كمال قدرته والعليم إشارة إلى كمال علمه ﴿وهو الذي جعل﴾ أي : خلق ﴿لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البرّ والبحرّ﴾ أي : في ظلمات الليل في البرّ والبحر وإضافتها إليهما للملابسة أو في مشتبهات الطرق وسماها ظلمات على الاستعارة وهو إفراد لبعض منافعها بالذكر بعدما أجملها بقوله : لكم، ومن منافعها أنها زينة للسماء كما قال تعالى :﴿ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح﴾ ومنها رمي الشياطين كما قال تعالى :﴿وجعلناها رجوماً للشياطين﴾ (الملك، ٥)
﴿قد فصلنا﴾ أي : بينا ﴿الآيات﴾ أي : الدالات على قدرتنا وتوحيدنا ﴿لقوم يعلمون﴾ أي : يتدبرون فإنهم المنتفعون به


الصفحة التالية
Icon