جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٠٦
وهو الذي أنشأكم} أي : خلقكم ﴿من نفس واحدة﴾ أي : من آدم عليه الصلاة والسلام فهو أبو البشر كلهم وحوّاء مخلوقة منه وعيسى أيضاً لأنّ ابتداء خلقه من مريم وهي من بنات آدم فثبت أنّ جميع البشر من آدم عليه السلام ﴿فمستقرّ ومستودع﴾ أي : فمستقرّ في الرحم ومستودع في القبر إلى أن يبعث أو فمستقر في أرحام الأمّهات ومستودع في أصلاب الآباء، قال سعيد بن جبير : قال لي ابن عباس : هل تزوّجت ؟
قلت : لا، قال : أما إنه ما كان مستودعاً في ظهرك فسيخرجه الله عز وجلّ أو مستقرّ في الرحم ومستودع فوق الأرض قال تعالى :﴿ونقرّ في الأرحام ما نشاء﴾ أو فمستقرّ على وجه الأرض ومستودع عند الله في الآخرة أو فمستقرّ في القبر ومستودع في الدنيا وكان الحسن يقول : يا ابن آدم أنت وديعة في أهلك يوشك أن تلحق بصاحبك أو فمستقرّ في القبر ومستودع في الجنة أو النار قال تعالى في صفة الجنة : حسنت مستقرّاً وفي صفة النار وساءت مستقرّاً، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر القاف على اسم الفاعل والمستودع مفعول أي : فمنكم قار ومنكم مستودع لأنّ الاستقرار من الله تعالى دون الاستيداع لأنّ الاستقرار في الأصلاب أو فوق الأرض، لا صنع للعبد فيه بخلاف الاستيداع في الأرحام أو تحت الأرض، والباقون بالنصب ﴿قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون﴾ أي : يفهمون ما يقال لهم ذكر مع ذكر النجوم يعلمون لأنّ أمرها ظاهر وذكر مع تخليقه بني آدم يفقهون لأنّ إنشاءهم من نفس واحدة وتصريفهم بين أحوال مختلفة دقيق غامض يحتاج إلى استعمال فطنة وتدقيق نظر ﴿وهو الذي أنزل من السماء ماء﴾ أي : مطراً وهو من السحاب أو من جانب السماء، وقيل : إنّ الله تعالى ينزله من السماء إلى السحاب ثم من السحاب إلى الأرض ﴿فأخرجنا به﴾ أي : بالماء وفي ذلك التفات حيث لم يقل فأخرج على وفق أنزل ﴿نبات كلّ شيء﴾ أيّ شيء ينبت وينمو من جميع أصناف النبات فالسبب واحد وهو الماء والمسيبات صنوف متفرّقة كما قال تعالى :﴿يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل﴾ (الرعد، ٤)
﴿فأخرجنا منه﴾ أي : من النبات أو الماء ﴿خضراً﴾ أي : شيئاً أخضر يقال : أخضر وخضر مثل أعور وعور والأخضر هو جميع البقول والزروع والبقول الرطبة ﴿نخرج منه﴾ أي : الخضر ﴿حباً متراكباً﴾ أي : يركب بعضه بعضاً كسنابل الحنطة والشعير والأرز والذرة وقوله تعالى :﴿ومن النخل﴾ خبر مقدّم ويبدل منه ﴿من طلعها﴾ وهو أوّل ما يخرج منها والمبتدأ ﴿قنوان﴾ أي : عراجين ﴿دانية﴾ أي : قريبة من التناول يتناولها النائم والقاعد أو قريب بعضها من بعض وإنما اقتصر على ذكرها عن مقابلها وهي البعيدة لدلالتها عليها كقوله تعالى ﴿سرابيل تقيكم الحرّ﴾ (النحل، ٨١)
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٠٦
أي : والبرد واكتفى بذكر أحدهما وحكمة تخضيص دانية بالذكر زيادة النعمة فيها وقوله تعالى :﴿وجنات﴾ عطف على نبات كلّ شيء أي : وأخرجنا به بساتين ﴿من أعناب﴾ وقوله تعالى :
٥٠٨
﴿والزيتون والرمّان﴾ عطف أيضاً على نبات أي : وأخرجنا به شجر الزيتون والرمّان ﴿مشتبهاً وغير متشابه﴾ قال قتادة : معناه مشتبهاً ورقها مختلفاً ثمرها لأن ورق الزيتون يشتبه ورق الرمان، وقيل : مشتبهاً في النظر مختلفاً في الطعم والله سبحانه ذكر في هذه الآية أربعة أنواع من الشجر بعد ذكر الزرع وقدّم الزرع على سائر الأشجار لأنّ الزرع غذاء وثمار الأشجار فواكه والغذاء مقدّم على الفواكه وقدم النخل على غيرها لأنّ ثمرها يجري مجرى الغذاء وفيها من المنافع والخواص ما ليس في غيرها من الأشجار قال بعضهم وليس لنا أنثى من الشجر تحتاج إلى ذكر غير النخل أي : في تطييب ثمرها وذكر العنب عقب النخل لأنه من أشرف أنواع الفواكه ثم ذكر عقبه الزيتون لما فيه من البركة والنفع ثم ذكر بعده الرمان لما فيه من المنافع أيضاً ﴿انظروا﴾ أيها المخاطبون نظر اعتبار ﴿إلى ثمره﴾ قرأ حمزة والكسائيّ بضمّ الثاء والميم، والباقون بالنصب، وهو جمع ثمرة كشجرة وشجر وخشبة وخشب ﴿إذا أثمر﴾ أي : حين يبدو من أكمامه ضعيفاً قليل النفع أو عديمه ﴿و﴾ انظروا إلى ﴿ينعه﴾ أي : إلى إدراكه إذا أدرك وحان قطفه كيف يصير ذا نفع ولذة والمعنى انظروا نظر استدلال واعتبروا كيف أخرج الله هذه الثمرة اللطيفة من هذه الشجرة الكثيفة اليابسة وهو قوله تعالى :﴿إنّ في ذلكم لآيات﴾ أي : دلالات على قدرته تعالى على البعث وغيره فإنّ حدوث الأجناس المختلفة والأنواع المفننة من أصل واحد ونقلها من حال إلى حال لا يكون إلا بإحداث قادر يعلم تفاصيلها ويرجح ما تقتضيه حكمته مما يمكن من أحوالها ولا يعوقه عن فعله ندّ يعارضه أو ضد يعانده وخص المؤمنين بالذكر بقوله :﴿لقوم يؤمنون﴾ لأنهم المنتفعون بها بخلاف الكافرين ولذلك عقبه بتوبيخ من أشرك به والردّ عليه فقال تعالى :
﴿وجعلوا شركاء الجنّ﴾ أي : الشياطين لأنهم أطاعوهم في عبادة الأوثان فجعلوها شركاء الله.