جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٠٦
فإن قيل : لله مفعول ثان لجعلوا وشركاء مفعول أوّل ويبدل منه الجنّ فما فائدة التقديم ؟
أجيب : بأنّ فائدته استعظام أن يتخذ لله شريك من جنّ أو إنس أو ملك فلذلك قدم اسم الله تعالى على الشركاء، وقيل : المراد بالجنّ الملائكة بأن عبدوهم وقالوا : الملائكة بنات الله وسماهم جناً لاجتنانهم تحقيراً لشأنهم، وقال الكلبيّ : نزلت في الزنادقة أثبتوا الشركة لإبليس في الخلق فقالوا : الله خالق النور والناس والدواب والأنعام وإبليس خالق الظلمة والسباع والحيات والعقارب فيقولون : هو شريك الله في تدبير هذا العالم فما كان من خير فمن الله وما كان من شر فمن إبليس تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً وقوله تعالى :﴿وخلقهم﴾ حال بتقدير قد والضمير إمّا أن يعود إلى الجنّ فيكون المعنى والله خلق الجنّ فكيف يكون شريك الله عز وجلّ محدثاً مخلوقاً وإمّا أن يعود إلى الجاعلين لله شركاء فيكون المعنى وجعلوا لله الذي خلقهم شركاء لا يخلقون شيئاً وهذا كالدليل القاطع بأنّ المخلوق لا يكون شريكاً لله وكل ما في الكون محدث مخلوق والله تعالى خالق لجميع ما في الكون فامتنع أن يكون لله شريك في ملكه ﴿وخرقوا﴾ قرأه نافع بتشديد الراء، والباقون بالتخفيف، أي : اختلقوا ﴿له بنين وبنات بغير علم﴾ وهو قول أهل الكتابين في المسيح وعزير وقول قريش في الملائكة يقال : خلق الإفك وخرقه واختلقه واخترقه بمعنى وسئل الحسن عنه فقال : كلمة غريبة كانت العرب تقولها، كان الرجل إذا كذب كذبة في نادي القوم يقول له بعضهم : قد خرقها والله ﴿سبحانه﴾ تنزيهاً له ﴿وتعالى عما يصفون﴾ بأن له شريكاً أو ولداً
﴿بديع السموات والأرض﴾ أي : مبتدعهما من غير سبق مثال ورفع بديع على الخبر والمبتدأ محذوف أي : هو بديع أو على الابتداء والخبر ﴿أنى يكون له ولد﴾ أي : من أين يكون له ولد
٥٠٩
﴿ولم تكن له صاحبة﴾ يكون منها الولد لأنّ الولد لا يكون إلا من صاحبة أنثى ﴿وخلق كل شيء﴾ أي : من شأنه أن يخلق ﴿وهو بكل شيء عليم﴾ لا تخفى عليه خافية، وفي الآية استدلال على نفي الولد من وجوه : الأوّل : إنه مبدع السموات والأرض وهي أجسام عظيمة من جنس ما يوصف بالولادة لكونها مخلوقة لا يستقيم أن توصف بالولادة لاستمرارها وطول مدّتها ومخترع الأجسام لا يكون جسماً حتى يكون والدا، الثاني : أن الولادة لا تكون إلا من ذكر وأنثى مجانسين وهو متعال عن مجانس فلم يصح أن تكون له صاحبة فلم تصح الولادة، والثالث : أنه ما من شيء إلا وهو خالقه والعالم به ومن كان بهذه الصفة كان غنياً عن كل شيء والولد إنما يطلبه المحتاج، وقوله تعالى :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٠٦
﴿ذلكم﴾ إشارة إلى الموصوف بما سبق من الصفات وهو مبتدأ وقوله تعالى :﴿الله ربكم لا إله إلا هو خالق كلّ شيء﴾ أخبار مترادفة ويجوز أن يكون البعض في غير الله تعالى بدلاً أو صفة لأنّ الله تعالى أوّل وليس بصفة والبعض خبراً وقوله تعالى :﴿فاعبدوه﴾ مسبب عن مضمون ذلك فإنّ من استجمع هذه الصفات استحق العبادة ﴿وهو على كل شيء وكيل﴾ أي : وهو مع تلك الصفات مالك لكل شيء من الأرزاق والآجال رقيب على الأعمال فيجازي عليها ﴿لا تدركه الأبصار﴾ جمع بصر وهي حاسة النظر وقد يقال للعين من حيث إنها محلها والإدراك إحاطة بكنه الشيء وحقيقته وتمسك بظاهر هذه الآية قوم من أهل البدع وهم الخوارج والمعتزلة وبعض المرجئة وقالوا : إنّ الله تبارك وتعالى لا يراه أحد من خلقه وإن رؤيته مستحيلة عقلاً لأنّ الله تعالى أخبر أنّ الأبصار لا تدركه وإدراك البصر عبارة عن الرؤية إذ لا فرق بين قولك أدركته ببصري ورأيته ببصري فثبت بذلك أنّ لا تدركه الأبصار بمعنى لا تراه الأبصار وهذا يفيد العموم ومذهب أهل السنة إن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة وفي الجنة واستدلوا لمذهبهم بأشياء من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة ومن بعدهم من السلف فمن الكتاب قوله تعالى :﴿وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة﴾ (القيامة ٢٢، ٢٣)
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥١٠
ففي هذه الآية دليل على أنّ المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة، وقال تعالى :﴿كلا إنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون﴾ (المطفقين، ١٥)
قال الشافعي رضي الله تعالى عنه : حجب قوماً بالمعصية وهي الكفر فثبت أنّ قوماً يرونه بالطاعة وهي الإيمان، وقال مالك رضي الله تعالى عنه : لو لم ير المؤمنون ربهم يوم القيامة لم يعير الله تعالى الكفار بالحجاب وقال تعالى :﴿للذين أحسنوا الحسنى وزيادة﴾ (يونس، ٢٦)