وذروا} أي : اتركوا ﴿ظاهر الإثم وباطنه﴾ أي : ما أعلنتم به وما أسررتم به من الذنوب كلها، وقيل : المراد بظاهر الإثم أفعال الجوارح وبباطنه أفعال القلوب فيدخل فيه الحسد والكبر والعجب وإرادة الشرّ للمسلمين ونحو ذلك، وقيل : ظاهر الإثم الزناة في الحوانيت وباطنه المرأة يتخذها الرجل صديقة فيأتيها سراً ﴿إنّ الذين يكسبون الإثم﴾ في الدنيا بارتكاب المعاصي ﴿سيجزون﴾ في الآخرة ﴿بما كانوا يقترفون﴾ أي : يكسبون وظاهر هذا النص يدل على عقاب المذنب ومذهب أهل السنة إنه إذا لم يتب فهو في خطر المشيئة إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه بفضله أمّا إذا تاب من الذنب توبة صحيحة لم يعاقب فإنّ التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
﴿ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه﴾ قال ابن عباس : الآية في تحريم الميتات وما في معناها من المنخنقة وغيرها، وقال عطاء : الآية في تحريم الذبائح التي كانوا يذبحونها على اسم الأصنام، واختلف أهل العلم في ذبيحة المسلم إذا لم يذكر اسم الله تعالى عليها فذهب قوم إلى تحريمها سواء أتركت التسمية عمداً أم نسياناً وهو قول ابن سيرين والشعبيّ واحتجوا بظاهر الآية وذهب قوم إلى حلها مطلقاً، ويروى ذلك عن ابن عباس وهو قول الشافعي وأحمد وذهب قوم إلى أنه إن ترك التسمية عامداً لم تحل أو ناسياً حلت وهو مذهب مالك، ومن قال بالإباحة مطلقاً قال المراد من الآية الميتات وما ذبح على غير اسم الله بدليل قوله تعالى :﴿وإنه لفسق﴾ أي : ما ذكر عليه اسم غير الله كما قال تعالى في آخر السورة :﴿قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً﴾ إلى قوله :﴿أو فسقاً أهل لغير الله به﴾ (الأنعام، ١٤٥)
والضمير لما ويجوز أن يكون للأكل الذي دل عليه لا تأكلوا واحتجوا أيضاً في إباحتها بما روى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : قالوا : يا رسول الله إنّ هنا أقواماً حديث عهدهم بشرك يأتوننا بلحمان فلا ندري أيذكرون اسم الله عليها أم لا ؟
قال :"اذكروا أنتم اسم الله وكلوا" فلو كانت التسمية شرطاً للإباحة لكان
٥١٦
الشك في وجودها مانعاً من أكلها كالشك في أصل الذبح ﴿وإنّ الشياطين ليوحون﴾ أي : يوسوسون ﴿إلى أوليائهم﴾ من الكفار ﴿ليجادلوكم﴾ في تحليل الميتة بقولهم : تأكلون ما قتلتم أنتم وجوارحكم وتدعون ما قتله الله وهذا يؤيد التأويل بالميتة ﴿وإن أطعتموهم﴾ أي : باستحلال ما حرم ﴿إنكم لمشركون﴾ أي : مثلهم في الشرك، قال الزجاج : فيه دليل على أنّ كل من أحل شيئاً مما حرّم الله أو حرّم شيئاً مما أحلّ الله فهو مشرك.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥١٦
أو من كان ميتاً﴾ أي : بالكفر ﴿فأحييناه﴾ أي : بالإيمان وإنما جعل الكفر موتاً لأنه جعل الإيمان حياة لأنّ الحي صاحب بصر يهتدي به إلى رشده، ولما كان الإيمان يهدي إلى الفوز العظيم والحياة الأبدية شبه بالحياة، وقرأ نافع بتشديد الياء والباقون بالتخفيف ﴿وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس﴾ أي : يتبصر به الحق من غيره وهو الإيمان، وقال قتادة : هو كتاب الله القرآن بينة من الله مع المؤمن بها يعمل وبها يأخذ وإليها ينتهي ﴿كمن مثله﴾ أي : كمن هو ﴿في الظلمات﴾ فمثل زائدة ﴿ليس بخارج منها﴾ وهو الكافر أي : ليس مثله. نزلت هذه الآية في حمزة بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه وأبي جهل بن هشام وذلك إنّ أبا جهل رمى رسول الله ﷺ بفرث فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل وهو راجع من قنصه وبيده قوس وحمزة لم يؤمن بعد فأقبل غضبان حتى علا أبا جهل بالقوس وهو يقول : يا أبا يعلى ما ترى ما جاء به سفه عقولنا وسفه آلهتنا وخالف آباءنا، فقال حمزة : ومن أسفه منكم تعبدون الحجارة من دون الله أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنّ محمداً رسول الله، وقيل : في عمر بن الخطاب أو عمار بن ياسر وأبي جهل. ﴿كذلك﴾ أي : كما زين للمؤمنين إيمانهم ﴿زين للكافرين ما كانوا يعملون﴾ أي : من الكفر والمعاصي، قال أهل السنة : المزين هو الله تعالى ويدل عليه قوله تعالى : زينا لهم أعمالهم وقالت المعتزلة : المزين هو الشيطان وردّ بالآية المذكورة.
﴿وكذلك﴾ أي : كما جعلنا فساق أهل مكة أكابرها ﴿جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها﴾ أي : عظماءها، وأكابر جمع أكبر كأفضل وأفاضل وأسود وأساود وذلك سنة الله تعالى أنه جعل في كل قرية أتباع الرسل ضعفاءهم كما قال في قصة نوح :﴿أنؤمن لك واتبعك الأرذلون﴾ (الشعراء، ١١١)
وجعل فساقهم أكابرهم ﴿ليمكروا فيها﴾ بالصدّ عن الإيمان وذلك أنهم أجلسوا على طرق مكة أربع نفر ليصرفوا الناس عن الإيمان بمحمد ﷺ يقولون لكل من يقدم : إياكم وهذا الرجل فإنه كاهن ساحر كذاب فكان هذا مكرهم ﴿وما يمكرون إلا بأنفسهم﴾ لأنّ وباله يحيق بهم ﴿وما يشعرون﴾ أي : وما لهم نوع شعور بذلك.