خلقت قبلكما وأنا أعلم فاتبعاني أرشدكما وفيه تنبيه على الاحتراز من الحالف وإن الأغلب أنّ كل حلاف كاذب وأنه لا يحلف إلا عند ظنه أن سامعه لا يصدقه ولا يظنّ ذلك إلا وهو معتاد للكذب، وقال بعض العلماء : من خادعنا بالله خدعنا له، وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان إذا رأى من عبده طاعة وحسن صلاة أعتقه وكان عبيده يفعلون ذلك طلباً للعتق فقيل له : إنهم يخدعونك فقال : من خدعنا بالله انخدعنا له وإبليس لعنه الله تعالى أوّل من حلف بالله تعالى كاذباً فلما حلف ظن آدم أنّ أحداً لا يحلف بالله تعالى كاذباً فاغتر به.
﴿فدلاهما بغرور﴾ أي : خدعهما، يقال : ما زال يدلي لفلان بالغرور يعني ما زال يخدعه ويكلمه بزخرف القول الباطل وقيل : حطهما من منزلة الطاعة إلى حالة المعصية والغرور إظهار النصح مع إبطان الغش ﴿فلما ذاقا الشجرة﴾ أي : أكلا من ثمرها وفي ذلك دليل على أنهما تناولا اليسير من ذلك قصداً إلى معرفة طعمه إذ الذوق يدل على الأكل اليسير.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : قبل ازدرادهما أخذتهما العقوبة والعقوبة هي قوله تعالى :﴿بدت﴾ أي : ظهرت ﴿لهما سوآتهما﴾ أي : عوراتهما وتجافت عنهما لباسهما حتى أبصر كل واحد منهما ما ووري عنه من سوأة صاحبه بأن رأى قبل نفسه وقبل صاحبه ودبره وكانا لا يريان ذلك وسمى كل منهما سوأة لأنّ انكشافه يسوء صاحبه، قال وهب : كان لباسهما من النور يحول بينهما وبين النظر، وقال قتادة : كان ظفراً ألبسهما الله من الظفر لباساً فلما وقعا في الذنب بدت لهما سوآتهما فاستحيا ﴿وطفقا﴾ أي : أقبلا وجعلا ﴿يخصفان﴾ أي : يلزقان ﴿عليهما من ورق الجنة﴾ أي : من ورق التين قال البغوي : حتى صار كهيئة الثوب، قال الزجاج : يجعلان ورقة على ورقة ليسترا سوآتهما.
روي عن أبيّ بن كعب عن رسول الله ﷺ قال :"كان آدم رجلاً طوالاً كأنه نخلة سحوق كثير شعر الرأس فلما وقع في الخطيئة بدت له سوأته وكان لا يراها فانطلق هارباً في الجنة فعرضت له شجرة من شجر الجنة فحبسته بشعره فقال لها : أرسليني، فقالت : لست بمرسلتك، فناداه الله عز وجل : يا آدم أمني تفرّ، فقال : لا يا رب ولكني استحييتك" ﴿وناداهما﴾ أي : خاطبهما ﴿ربهما﴾ بقوله :﴿ألم أنهكما عن تلكما الشجرة﴾ أي : عن الأكل من ثمرها ﴿وأقل لكما إنّ الشيطان لكما عدو مبين﴾ أي : بين العداوة لكما وقد بان لكما عداوته بترك السجود تعنتاً وحسداً، وفي ذلك عتاب على مخالفة النهي وتوبيخ على الاغترار بقول العدوّ ودليل على أنّ مطلق النهي للتحريم، قال محمد بن قيس : لما أكل آدم من الشجرة ناداه ربه يا آدم أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها ؟
قال : حواء أمرتني، وقال لحواء : لم أطعمت آدم ؟
قالت : أمرتني الحية، وقال للحية : لم أمرتيها ؟
قالت : أمرني إبليس، قال الله تعالى : أمّا أنت يا حواء فكما أدميت الشجرة فتدمين في كل شهر، وأمّا أنت يا حية فأقطع قوائمك فتمشين على وجهك وسيشدخ رأسك من لقيك، وأمّا أنت يا إبليس فملعون مدحور. وفي رواية لابن عباس : إنه قال لحواء : فإني أعطيتها أن لا تحمل إلا كرهاً ولا تضع إلا كرهاً.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٣٦
٥٤٠
﴿قالا ربنا ظلمنا أنفسنا﴾ أي : ضررناها بمخالفة أمرك وطاعة عدوّنا وعدوك فإن لم تتب علينا نستمر عاصين ﴿وإن لم تغفر لنا﴾ أي : فهو ما عملنا عيناً وأثراً ﴿وترحمنا﴾ أي : فتعلي درجاتنا ﴿لنكونن من الخاسرين﴾ في الأرض فأعربت الآية أنهما فزعا إلى الإنصاف وبالاعتراف بذنبهما وإن كان إنما هو خلاف الأولى لأنه بطريق النسيان كما في سورة طه قال قتادة : قال آدم أرأيت إن تبت إليك واستغفرتك ؟
قال : أدخلك الجنة، وأمّا إبليس فلم يسأل التوبة وسأل النظرة فأعطى كل واحد منهما ما سأله، وقال الضحاك في قوله تعالى :﴿قالا ربنا ظلمنا أنفسنا﴾ قال : هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه تعالى : وقد استدل من يرى صدور الذنب من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بهذه الآية، ورد بأن درجة الأنبياء في الرفعة والعلو والمعرفة بالله تعالى في أعلى الدرجات ولكن يؤاخذون بما لم يؤاخذ به غيرهم وإنهم ربما عوتبوا بأمور صدرت منهم على سبيل التأويل فهم بسبب ذلك خائفون وجلون وهي ذنوب بالإضافة إلى علو منصبهم ومعاصي بالنسبة إلى كمال طاعتهم لا إنها ذنوب كذنوب غيرهم ومعاص كمعاصي غيرهم فكان ما صدر منهم مع طهارتهم ونزاهتهم وعمارة بواطنهم بالوحي السماوي والذكر القدسي وعمارة ظواهرهم بالعمل الصالح والخشية لله تعالى ذنوب بالنسبة إلى أحوالهم فقالا ذلك على عادة المقرّبين في استعظام الصغير من السيئات وتحقير العظيم من الحسنات وقد تقدّم الكلام على ذلك في سورة البقرة ومن جملة ذلك أن آدم إنما أكل من الشجرة قبل النبوّة.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٤٠