قال} الله تعالى ﴿اهبطوا﴾ أي : آدم وحواء بما اشتملتما عليه من ذرّيتكما ويدل لذلك قوله تعالى في سورة طه :﴿اهبطا﴾ (طه، ١٢٣)
بضمير التثنية ﴿بعضكم﴾ أي : بعض الذرّية ﴿لبعض عدوّ﴾ أي : من ظلم بعضهم بعضاً، وقيل : يعود الضمير لآدم وحواء وإبليس، وقيل : لآدم
٥٤١
وحواء وإبليس والحية، وعلى هذين فالعداوة ثابتة بين آدم وإبليس والحية وذرية كل واحد من آدم وإبليس ﴿ولكم في الأرض﴾ أي : جنسها ﴿مستقر﴾ أي : موضع استقرار ﴿و﴾ لكم فيها ﴿متاع﴾ أي : تمتع ﴿إلى حين﴾ أي : انقضاء آجالكم، وقيل : إلى انقطاع الدنيا، وعن ثابت البناني رحمه الله تعالى لما أهبط آدم وحضرته الوفاة أحاطت به الملائكة فجعلت حواء تدور حولهم فقال لها : خلي ملائكة ربي فإنما أصابني الذي أصابني منك فلما توفي غسلته الملائكة بسرنديب بماء وسدر وتراً وحنطته وكفنته في وتر من الثياب وحفروا له ولحدوه بسرنديب بأرض الهند وقالوا لبنيه : هذه سنتكم من بعده.
﴿قال﴾ الله تعالى ﴿فيها﴾ أي : الأرض ﴿تحيون﴾ أي : تعيشون أيام حياتكم ﴿وفيها تموتون﴾ أي : وفيها وفاتكم وموضع قبوركم ﴿ومنها تخرجون﴾ أي : يوم القيامة تخرجون للحشر والجزاء، وقرأ ابن ذكوان وحمزة والكسائي بفتح التاء وضم الراء والباقون بضم التاء وفتح الراء.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٤٠
﴿يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً﴾ أي : خلقناه لكم بتدبيرات سماوية وأسباب نازلة من مطر ونحوه ونظيره قوله تعالى :﴿وأنزل لكم من الأنعام﴾ (الزمر، ٦)
وقوله تعالى :﴿وأنزلنا الحديد﴾ (الحديد، ٢٥)
وقيل : كل بركات الأرض منسوبة إلى السماء ﴿يواري﴾ أي : يستر ﴿سوأتكم﴾ أي : عوراتكم.
روي أنّ العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة ويقولون : لا نطوف في ثياب عصينا الله تعالى فيها وكان الرجال يطوفون بالنهار والنساء يطوفون بالليل عراة قال قتادة : كانت المرأة تطوف وتضع يدها على فرجها وتقول :
*اليوم يبدو بعضه أو كله ** وما بدا منه فلا أحله*
فنزلت، قال البيضاوي : ولعله سبحانه ذكر قصة آدم تقدمة لذلك حتى نعلم أنّ انكشاف العورة أوّل سوء أصاب الإنسان من الشيطان وإنه أغواهم في ذلك كما أغوى أبويهم ﴿وريشاً﴾ أي : ولباساً تتجملون به والريش للطائر معروف وهو لباسه وزينته كالثياب للإنسان فاستعير للإنسان لأنه لباسه وزينته والمعنى : وأنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم ولباساً لزينتكم لأنّ الزينة غرض صحيح. كما قال تعالى :﴿لتركبوها وزينة﴾ (النحل، ٨)
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٤٢
وقال تعالى :﴿ولكم فيها جمال﴾ (النحل، ٦)
وقال ﷺ "إنّ الله جميل يحب الجمال" وقال ابن عباس : وريشاً أي : مالاً، يقال : تريش الرجل تموّل، ولما ذكر سبحانه وتعالى اللباس الحسي وقسمه إلى ساتر ومزين أتبعه اللباس المعنوي فقال :﴿ولباس التقوى﴾ قال ابن عباس : هو العمل الصالح ثم زاد الله تعالى في تعظيم المعنوي بقوله :﴿ذلك خير﴾ أي : ولباس التقوى هو خير من لباس الثياب لكونه أهم اللباسين لأنّ نزعه يكشف العورة الحسية والمعنوية فلو تجمل الإنسان بأحسن الملابس وهو غير متق كان كله سوآت ولو كان متقياً وليس عليه إلا خريقة ثوب تواري عورته كان في غاية الجمال والكمال وأنشدوا في المعنى :
*إذا أنت لم تلبس ثياباً من التقى ** عريت وإن وارى القميص قميص*
٥٤٢
وقال قتادة : لباس التقوى هو الإيمان، وقال الحسن : هو الحياء لأنه يبعث على التقوى، وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه : هو السمت الحسن، وقال ابن الزبير : هو خشية الله تعالى والعمل الصالح يشمل هذه الأمور كلها، وقرأ نافع وابن عامر والكسائي بنصب السين عطفاً على لباساً والباقون بالرفع على الابتداء والخبر ذلك خير ﴿ذلك﴾ أي : إنزال اللباس ﴿من آيات الله﴾ الدالة على فضله ورحمته ﴿لعلهم يذكرون﴾ فيعرفون نعمة الله فيتعظون ويتورعون عن القبائح وهذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقب ذكر بدو السوآت وخصف الورق عليها إظهاراً للمنة فيما خلق من اللباس، ولما في العري وكشف العورة من المهانة والفضيحة إظهاراً وإشعاراً بأنّ الستر باب عظيم من أبواب التقوى.


الصفحة التالية
Icon