أو بين الجنة والنار ليمتنع وصول أثر إحداهما إلى الأخرى ﴿وعلى الأعراف﴾ وهو سور الجنة جمع عرف وهو المكان المرتفع ومنه عرف الديك لارتفاعه على ما سواه من جسده، وقال السدي : هي ذلك السور أعرافاً لأن أصحابه يعرفون الناس أي : أهل الجنة والنار ﴿رجال﴾ أي : طائفة من الموحدين استوت حسناتهم وسيآتهم كما في الحديث :"فقصرت بهم سيآتهم عن الجنة وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار فوقفوا هناك حتى يقضي الله تعالى فيهم ما يشاء ثم يدخلون الجنة بفضل الله تعالى ورحمته وهم آخر من يدخل الجنة"، وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : يحاسب الناس يوم القيامة فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار ثم قرأ قوله تعالى :﴿فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم﴾ ثم قال : إن الميزان تخف بمثقال حبة أو ترجح قال : ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف، وقيل : هم قوم خرجوا إلى الغزو بغير إذن آبائهم فقتلوا فأعتقوا من النار بقتلهم في سبيل الله وحبسوا عن الجنة بمعصية آبائهم فهم آخر من يدخل الجنة، وقيل : هم الذين ماتوا في الفترة ولم يبدلوا دينهم، وقيل : هم أطفال المشركين ﴿يعرفون﴾ أي : أصحاب الأعراف ﴿كلاً﴾ من أهل الجنة والنار ﴿بسيماهم﴾ أي : بعلاماتهم وهي بياض الوجوه للمؤمنين وسوادها للكافرين لرؤيتهم لهم إذ موضعهم عال ﴿ونادوا﴾ أي : ونادى أصحاب الأعراف ﴿أصحاب الجنة أن سلام عليكم﴾ إذا نظروا إليهم سلموا عليهم ﴿لم يدخلوها﴾ أي : أصحاب الأعراف الجنة ﴿وهم يطمعون﴾ في دخولها، قال الحسن : لم يطمعهم إلا لكرامة يريدها بهم.
وروى الحاكم عن حذيفة قال : بينما هم كذلك إذ طلع عليهم ربك فقال : قوموا ادخلوا الجنة فقد غفرت لكم، وقال مجاهد : أصحاب الأعراف قوم صالحون فقهاء علماء وعلى هذا إنما يكون لبثهم على الأعراف على سبيل النزهة وليرى غيرهم شرفهم وفضلهم.
٥٥٠
وحكى ابن الأنباري أنهم أنبياء وعلى هذا إنما أجلسهم على ذلك العالي تمييزاً لهم على أهل القيامة وإظهاراً لفضلهم وعلو مرتبتهم وليكونوا مشرفين على أهل الجنة والنار ومطلعين على أحوالهم ومقادير ثواب أهل الجنة وعقاب أهل النار، وقال أبو مخلد : هم ملائكة يرون في صورة الرجال، والأقوال الأول تدل على أنّ أصحاب الأعراف دون أهل الجنة في الدرجات وإن كانوا يدخلون الجنة برحمة الله، والأقوال الأخيرة تدل على أنهم أفضل من أهل الجنة لأنهم أعلى منهم منزلة وأفضل.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٤٩
وإذا صرفت أبصارهم﴾
أي : أصحاب الأعراف ﴿تلقاء﴾ أي : جهة ﴿أصحاب النار﴾ فنظروا لهم وإلى سواد وجوههم وما هم فيه من العذاب ﴿قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين﴾ أي : الكافرين في النار قال ابن عباس : إنّ أصحاب الأعراف إذا نظروا إلى أصحاب النار وما هم فيه تضرّعوا إلى الله تعالى وسألوه أن لا يجعلهم منهم. وقرأ قالون وأبو عمرو والبزي بإسقاط الهمزة الأولى وأبدلها ورش وقنبل حرف مدّ وسهلاها والباقون بالتحقيق.
﴿ونادى أصحاب الأعراف رجالاً﴾ أي : كانوا عظماء في الدنيا من أهل النار ﴿يعرفونهم بسيماهم﴾ أي : بسيما أهل النار ﴿قالوا﴾ أي : أصحاب الأعراف لهؤلاء الذين عرفوهم في النار ﴿ما أغنى عنكم جمعكم﴾ أي : ما كنتم تجمعون من الأموال في الدنيا أو كثرتكم واجتماعكم فيها ﴿وما كنتم تستكبرون﴾ أي : وما أغنى عنكم تكبركم عن الإيمان شيئاً، قال الكلبيّ : ينادونهم على السور يا وليد بن المغيرة يا أبا جهل بن هشام يا فلان ويا فلان ثم ينظرون إلى الجنة فيرون فيها الفقراء والضعفاء ممن كانوا يستهزؤون بهم مثل سلمان الفارسيّ وخبيب وصهيب وبلال وأشباههم فيقول أصحاب الأعراف لهؤلاء الكفار :
﴿أهؤلاء﴾ لفظ استفهام أي : أهؤلاء الضعفاء ﴿الذين أقسمتم﴾ أي : حلفتم بالله ﴿لا ينالهم الله برحمة﴾ أي : لا يدخلون الجنة، وقد قيل لهم :﴿ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون﴾ وقيل : أصحاب الأعراف إذا قالوا لأهل النار ما قالوا قال لهم أهل النار : إن دخل هؤلاء فأنتم لم تدخلوها فيعيرونهم بذلك ويقسمون أنهم لا يدخلون الجنة ولا ينالهم الله برحمة فتقول الملائكة الذين حبسوا أهل الأعراف : ادخلوا الجنة برحمة الله لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون، وهذا ظاهر على الأقوال الأول، وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة بكسر تنوين رحمة في الوصل وابن ذكوان بوجهين الضم والكسر والباقون بالضم.
﴿ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء﴾ أي : صبوه وهو دليل على أنّ الجنة فوق النار ﴿أو مما رزقكم الله﴾ أي : من سائر الأشربة ليلاً ثم الإفاضة لأنّ الإفاضة ملائمة للماء وسائر المائعات فحملت الإفاضة على إفاضة جميع المائعات أو من سائر المشروب والمأكول بتضمين أفيضوا ألقوا كقوله :
*علفتها تبناً وماء بارداً ** حتى غدت همالة عيناها*
٥٥١


الصفحة التالية
Icon