أي : مع اليومين الأوّلين اللذين خلق فيهما السموات لقوله تعالى في سورة السجدة :﴿الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام﴾ ثم لما ثم له عالم الملك عمد إلى تدبيره كالملك الجالس على عرشه لتدبير المملكة فدبر الأمر من السماء إلى الأرض بتحريك الأفلاك وتسيير الكواكب وتكوير الليالي والأيام ثم صرّح بما هو نتيجة ذلك فقال :﴿ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين﴾، ثم أمرهم أن يدعوه متذللين مخلصين بقوله تعالى :
﴿ادعوا ربكم﴾ لأنّ الدعاء هو السؤال والطلب وهو نوع من أنواع العبادة لأنّ الداعي لا يقدم على الدعاء إلا إذا عرف من نفسه الحاجة إلى ذلك المطلوب وهو عاجز عن تحصيله وعرف أنّ ربه سبحانه وتعالى يسمع الدعاء ويعلم حاجته وهو قادر على إيصالها إلى الداعي فعند ذلك يعرف العبد نفسه بالعجز والنقص ويعرف ربه بالقدرة والكمال وهو المراد من قوله تعالى :﴿تضرّعاً﴾ أي : ادعوا ربكم تذللاً واستكانة وهو إظهار الذل في النفس والخشوع يقال : ضرع فلان لفلان إذا ذل له وخشع ﴿وخفية﴾ أي : سرّاً في أنفسكم وهو ضدّ العلانية والأدب في الدعاء أن يكون خفياً لهذه الآية، وعن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه قال :"كنا مع رسول الله ﷺ فجعل الناس يجهرون بالتكبير فقال رسول الله ﷺ "أيها الناس أربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنكم تدعون سميعاً بصيراً وهو معكم" قال أبو موسى : وأنا خلفه أقول لا حول ولا قوّة إلا بالله في نفسي، فقال :"يا عبد الله بن قيس ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة ؟
" قلت : بلى، قال :"لا حول ولا قوّة إلا بالله"، وقال الحسن : بين دعوة السرّ والجهر سبعون ضعفاً ولقد كان
٥٥٥
المسلمون يجهدون في الدعاء لا يسمع لهم صوت إن كان إلا همساً بينهم وبين ربهم وذلك أنّ الله تعالى يقول :﴿ادعوا ربكم تضرّعاً وخفية﴾ فإنّ الله تعالى أثنى على زكريا عليه الصلاة والسلام فقال :﴿إذ نادى ربه نداءً خفياً﴾ (مريم، ٣)
وعن الحسن أيضاً : إنّ الله يعلم التقيّ والدعاء الخفيّ إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به جاره وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر الناس به وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة وعنده الزوّار وما يشعرون به، ولقد أدركنا أقواماً ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يفعلوه في السرّ فيكون علانية أبداً ﴿إنه﴾ تعالى ﴿لا يحب المعتدين﴾ أي : المجاوزين ما أمروا به في الدعاء وغيره نبه به على أنّ الداعي ينبغي له أن لا يطلب ما لا يليق به كرتبة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والصعود إلى السماء.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٥٢
روي أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول : اللهمّ إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها فقال : يا بنيّ إسأل الله الجنة وتعوّذ به من النار فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول :"سيكون في هذه الأمّة قوم يعتدون في الطهور والدعاء" وقيل : أراد به الاعتداء في الجهر، قال ابن جريج : من الاعتداء رفع الصوت والنداء بالدعاء والصياح، وعنه ﷺ "سيكون قوم يعتدون في الدعاء وحسب المرء أن يقول اللهمّ إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل" ثم قرأ :﴿إنه لا يحبّ المعتدين﴾.
﴿ولا تفسدوا في الأرض﴾ أي : بالشرك والمعاصي ﴿بعد إصلاحها﴾ أي : ببعث الرسل وشرع الأحكام، وقيل : لا تفسدوا في الأرض فيمسك الله المطر ويهلك الحرث بمعاصيكم وعلى هذا فمعنى قوله تعالى :﴿بعد إصلاحها﴾ أي : بعد إصلاح الله تعالى إياها بالمطر والخصب ﴿وادعوه خوفاً﴾ منه ومن عذابه ﴿وطمعاً﴾ أي : فيما عنده من مغفرته وثوابه، وقال ابن جريج : خوف العدل وطمع الفضل ﴿إنّ رحمت الله قريب من المحسنين﴾ أي : المطيعين، وفي ذلك ترجيح الطمع وتنبيه على ما يتوسل به إلى الإجابة وتذكير قريب المخبر به عن رحمة لإضافتها إلى الله تعالى، وقال سعيد بن جبير : الرحمة ههنا الثواب فرجع النعت إلى المعنى دون اللفظ، وقيل : إنّ تأنيث الرحمة ليس بحقيقي وما كان كذلك جاز فيه التذكير والتأنيث عند أهل اللغة، وقيل : ذكره للفرق بين القريب من النسب والقريب من غيره حيث يجب التأنيث في الأوّل فيقال فيه : فلانة قريبة مني ويجوز في الثاني فيقال : فلانة قريبة وقريب مني في المكان وكون الرحمة قريباً من المحسنين لأنّ الإنسان في كل ساعة من الساعات في إدبار من الدنيا وإقبال على الآخرة، وإذا كان كذلك كان الموت أقرب إليه من الحياة وليس بينهم وبين رحمة الله التي هي الثواب في الآخرة إلا الموت وهو قريب من الإنسان.
فائدة : رحمت تكتب بالتاء المجرورة فوقف عليها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالهاء والباقون بالتاء وأمالها الكسائي في الوقف، وقوله تعالى :


الصفحة التالية
Icon