﴿وهو الذي يرسل الرياح﴾ عطف على ما قبله والمعنى : إنّ ربكم الله الذي خلق السموات والأرض وهو الذي يرسل الرياح. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالتوحيد والباقون بالجمع ﴿نشراً بين يدي رحمته﴾ أي : متفرّقة قدام المطر الذي هو من أجل النعم وأحسنها
٥٥٦
أثراً. وقرأ عاصم بالباء الموحدة وسكون الشين أي مبشراً، وحمزة والكسائي بالنون مفتوحة وسكون الشين على أنه مصدر في موضع الحال بمعنى ناشرات أو مفعول مطلق فإن الإرسال والنشر متقاربان، وابن عامر بالنون مضمومة وسكون الشين تخفيفاً، والباقون بضم النون والشين جمع نشور بمعنى ناشر ﴿حتى إذا أقلت﴾ أي : حملت الرياح ﴿سحاباً ثقالاً﴾ أي : بالمطر يقال : أقل فلان الشيء إذا حمله واشتقاق الإقلال من القلة فإن من يرفع شيئاً يراه قليلاً ﴿سقناه﴾ أي : السحاب وإفراد الضمير باعتبار اللفظ وفيه التفات عن الغيبة ولو حمل على المعنى كالثقال لأنث كما لو حمل على اللفظ على الوصف لقيل : ثقيلاً، والسحاب جمع سحابة وهو الغيم فيه ماء أو لم يكن فيه ماء سمي سحاباً لانسحابه في الهواء، قال السدي : إن الله سبحانه وتعالى يرسل الرياح فتأتي بالسحاب من بين الخافقين وهما طرفا السماء والأرض حيث يلتقيان فتخرجه ثم تنشره فتبسطه في السماء كما يشاء ثم تفتح له أبواب السماء فيسيل الماء على السحاب ثم يمطر السحاب بعد ذلك ﴿لبلد ميت﴾ لا نبات فيه أي : لإحيائه.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٥٢
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وشعبة بتخفيف الياء والباقون بالتشديد ﴿فأنزلنا به﴾ أي : بالبلد أو السحاب ﴿الماء فأخرجنا به﴾ أي : بذلك الماء لأن إنزال الماء كان سبباً لإخراج الثمرات ﴿من كل الثمرات﴾ أي : من كل أنواعها، قال الأزهري : قال الليث بن سعد رحمه الله تعالى : البلد هو كل موضع من الأرض عامر أو غير عامر خال أو مسكون والطائفة منها بلدة والجمع بلاد ﴿كذلك﴾ أي : مثل هذا الإخراج ﴿نخرج الموتى﴾ أحياء من قبورهم بعد فنائهم ودرس آثارهم ﴿لعلكم تذكرون﴾ أي : لكي تعتبروا وتتذكروا والخطاب لمنكري البعث يقول : إنكم شاهدتم الأشجار وهي مزهرة مورقة مثمرة في أيام الربيع والصيف ثم إنكم شاهدتموها يابسة عارية من تلك الأوراق والثمار ثم إن الله أحياها مرة أخرى فالقادر على إحيائها بعد موتها قادر على أن يحيي الأجساد بعد موتها. قال أبو هريرة وابن عباس رضي الله تعالى عنهم : إذا مات الناس كلهم في النفخة الأولى أرسل الله تعالى عليهم مطراً كمني الرجال من ماء تحت العرش فينبتون في قبورهم نبات الزرع حتى إذا استكملت أجسادهم نفخ فيها الروح ثم يلقي عليهم نومة فينامون في قبورهم ثم يحشرون بالنفخة الثانية وهم يجدون طعم النوم في رؤوسهم وأعينهم فعند ذلك يقولون :﴿يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا﴾ (يس، ٥٢)
وقرأ حفص وحمزة والكسائي بتخفيف الذال والباقون بالتشديد.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٥٢
﴿والبلد الطيب﴾ أي : والأرض الكريمة التربة السهلة السمحة ﴿يخرج نباته بإذن ربه﴾ أي : بمشيئته وتيسيره عبر به عن كثرة النبات وحسنه وغزارة نفعه لأنها وقعت في مقابلة ﴿والذي خبث﴾ أي : والبلد الذي خبث أرضه فهي سبخة ﴿لا يخرج﴾ نباته ﴿إلا نكداً﴾ أي : عسراً بمشقة وكلفة قال المفسرون : وهذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر فشبه المؤمن بالأرض الطيبة وشبه نزول القرآن على قلبه بنزول المطر على الأرض الطيبة فإذا نزل المطر عليها أخرجت أنواع الأزهار والأثمار فكذلك المؤمن إذا سمع القرآن آمن به وانتفع به وظهر منه الطاعات والعبادات وأنواع الأخلاق الحميدة وشبه الكافر بالأرض الرديئة الغليظة السبخة التي لا ينتفع بها وإن أصابها المطر فكذلك الكافر إذا سمع القرآن لا ينتفع به ولا يصدّقه ولا يزيده إلا عتواً وكفراً وإن عمل الكافر حسنة في الدنيا كانت بمشقة وكلفة ولا ينتفع بها في الآخرة، وقيل : هو مثل ضربه الله تعالى لآدم وذريته كلهم منهم طيب ومنهم خبيث ﴿كذلك﴾ أي : كما بينا ما ذكر ﴿نصرّف﴾ أي : نبين ﴿الآيات﴾ الدالة على التوحيد والإيمان آية بعد آية وحجة بعد حجة ﴿لقوم يشكرون﴾ نعمة الله
٥٥٧
تعالى فيتفكرون فيها ويعتبرون بها وإنما خص الشاكرين بالذكر لأنهم هم الذين ينتفعون بسماع القرآن.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٥٧
ولما ذكر الله تعالى في الآيات المتقدّمة دلائل آثار قدرته الدالة على توحيده وربوبيته وأقام الأدلة القاطعة على صحة البعث بعد الموت أتبع ذلك بقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وما جرى لهم مع أممهم فقال :


الصفحة التالية
Icon