﴿لقد﴾ جواب قسم محذوف تقديره : والله لقد ﴿أرسلنا نوحاً﴾ عليه السلام ﴿إلى قومه﴾ ولا تكاد تطلق هذه اللام إلا مع قد لأنها مظنة التوقع فإن المخاطب إذا سمعها توقع وقوع ما صدر بها ونوح هو ابن لمك بن متوشلح بن أخنوخ وهو إدريس عليه السلام وهو أوّل نبي بعثه الله تعالى بعد إدريس وكان نجاراً بعثه الله تعالى إلى قومه وهو ابن خمسين سنة، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : وهو ابن أربعين سنة، وقيل : وهو ابن مائة سنة، وقيل : وهو ابن مائتين وخمسين سنة، وقال ابن عباس : سمي نوحاً لكثرة ما ناح على نفسه، واختلفوا في سبب نوحه فقال بعضهم : لدعوته على قومه بالهلاك، وقيل : لمراجعته ربه في شأن ابنه كنعان، وقيل : لأنه مرّ بكلب مجذوم فقال له : اخسأ يا قبيح فأوحى الله تعالى إليه : أعبتني، أو أعبت الكلب. وفي ذكر القصص تسلية للنبيّ ﷺ لأنه لم يكن إعراض قومه عن قبول الحق فقط بل قد أعرض عنه غالب الأمم الخالية والقرون الماضية وفيه تنبيه على أن عاقبة أولئك الذين كذبوا الرسل كانت للخسار والهلاك في الدنيا والآخرة والعذاب الأليم فمن كذب محمداً ﷺ من قومه كانت عاقبته مثل أولئك الذين خلوا من قبلهم من الأمم المكذبة وفيه دليل على صحة نبوّة محمد ﷺ لأنه كان أميّاً لا يقرأ ولا يكتب ولم يلق أحداً من علماء زمانه وقد أتى بمثل هذه القصص والأخبار عن القرون الماضية والأمم الخالية مما لم ينكره عليه أحد فعلم بذلك أنه إنما أتى من عند الله وأنه أوحى إليه بذلك فكان ذلك دليلاً واضحاً وبرهاناً قاطعاً على صحة نبوّته ﷺ ﴿فقال﴾ نوح حال إرساله لقومه ﴿يا قوم اعبدوا الله﴾ أي : اعبدوه وحده لقوله تعالى :﴿مالكم من إله غيره﴾ فإنه الذي يستحق العبادة لا غيره. وقرأ الكسائي بكسر الراء والهاء على أنه صفة لإله والباقون برفعهما على البدل من محله ﴿إني أخاف عليكم﴾ إن لم تقبلوا ما آمركم به من عبادة الله تعالى واتباع أمره وطاعته ﴿عذاب يوم عظيم﴾ هو يوم القيامة أو يوم نزول الطوفان وإهلاكهم فيه، وقال : أخاف، على الشك وإن كان يقيناً من حلول العذاب بهم إن لم يؤمنوا به لأنه لم يعلم وقت نزول العذاب بهم أيعاجلهم أم يتأخر عنهم العذاب إلى يوم القيامة، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بالسكون.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٥٧
قال الملأ من قومه﴾
أي : الأشراف منهم فإنهم يملؤون العيون منظراً ﴿إنا لنراك في ضلال﴾ أي : خطأ وزوال عن الحق ﴿مبين﴾ أي : بين.
﴿قال﴾ نوح مجيباً لهم :﴿يا قوم ليس بي ضلالة﴾ أي : ليس بي شيء مما تظنون من الضلال.
فإن قيل : لم لم يقل ليس بي ضلالة كما قالوا ؟
أجيب : بأنّ الضلالة أخص من الضلال فكانت أبلغ في نفي الضلال عن نفسه كما لو قيل : ألك ثمر فقلت : ما لي ثمرة فقد بالغ في النفي كما بالغوا في الإثبات وقوله تعالى :﴿ولكني رسول من ربّ العالمين﴾ استدراك باعتبار ما يلزمه وهو كونه كأنه قال : ولكني على هدى في الغاية لأني رسول الله.
﴿أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم﴾ والنصح إرادة الخير لغيره كما يريده لنفسه،
٥٥٨
ويقال : نصحته ونصحت له كما يقال : شكرته وشكرت له وفي زيادة اللام مبالغة ودلالة على إمحاض النصيحة وإنما وقعت خالصة للمنصوح له مقصوداً بها جانبه لا غير فرب نصيحة ينتفع بها الناصح فتقصد للنفعين جميعاً ولا نصيحة أمحض من نصيحة الله ورسوله وقيل : حقيقة النصح تعريف وجه المصلحة مع خلوص النية من شوائب المكروه، وقال بعض المفسرين : والفرق بين إبلاغ نصيحة الرسالة وبين النصيحة هو أن تبليغ الرسالة أن يعلمهم جميع أوامر الله تعالى ونواهيه وجميع أنواع التكاليف التي أوجبها الله تعالى عليهم وأما النصيحة فهي أن يرغبهم في قبول تلك الأوامر والنواهي والعبادات ويحذرهم عقابه إن عصوه وقرأ أبو عمرو بسكون الباء وتخفيف اللام من الإبلاغ كقوله تعالى :﴿لقد أبلغتكم رسالات ربي﴾ وقرأ الباقون بفتح الباء وتشديد اللام من التبليغ كقوله تعالى :﴿بلغ ما أنزل إليك من ربك﴾ (النساء، ٦٧)
﴿وأعلم من الله ما لا تعلمون﴾ أي : من صفات الله وأحوال قدرته الباهرة وشدّة بطشه على أعدائه وإنّ بأسه لا يردّ عن القوم المجرمين، وقوله تعالى :


الصفحة التالية
Icon