﴿أو عجبتم﴾ الهمزة للإنكار والواو للعطف على محذوف أي : أكذبتم وعجبتم ﴿أن جاءكم﴾ أي : من أن جاءكم ﴿ذكر﴾ أي : موعظة ﴿من ربكم على رجل﴾ أي : على لسان رجل ﴿منكم﴾ أي : من جنسكم أو من جملتكم تعرفون نسبه وذلك أنهم كانوا يتعجبون من نبوّة نوح عليه السلام ويقولون : ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين يعنون إرسال البشر ولو شاء ربنا لأنزل ملائكة ﴿لينذركم﴾ أي : لأجل أن ينذركم عاقبة الكفر والمعاصي ﴿ولتتقوا﴾ أي : ولأجل أن تتقوا الله ﴿ولعلم ترحمون﴾ بالتقوى إن وجدت منكم لأنّ المقصود إرسال الرسل الإنذار والمقصود من الإنذار التقوى عن كل ما لا ينبغي والمقصود بالتقوى الفوز بالرحمة في الدار الآخرة وفائدة حرف الترجي التنبيه على أن التقوى غير موجبة والرحمة من الله تعالى محض تفضيل وأن المتقي ينبغي أن لا يعتمد على تقواه ولا يأمن من عذاب الله.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٥٧
فكذبوه﴾
أي : نوحاً ﴿فأنجيناه والذين﴾ آمنوا به ﴿معه﴾ من الغرق وكانوا أربعين رجلاً وأربعين امرأة، وقيل : تسعة بنوه الثلاثة سام وحام ويافث وستة ممن آمن به، وقوله تعالى :﴿في الفلك﴾ متعلق بمعه كأنه قيل : والذين استقرّوا معه في الفلك أو صحبوه في الفلك أو بأنجيناه أي : أنجيناهم في السفينة من الطوفان ﴿وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا﴾ بالطوفان ﴿إنهم كانوا قوماً عمين﴾ أي : عمي القلوب عن الحق غير مستبصرين يقال : رجل عم في البصيرة وأعمى في البصر وأنشدوا قول زهير :
*وأعلم علم اليوم والأمس قبله ** ولكنني عن علم ما في غد عم*
﴿وإلى عاد﴾ أي : وأرسلنا إلى عاد وهو عاد بن عوص بن أرم بن سام بن نوح وهي عاد الأولى ﴿أخاهم هوداً﴾ أي أخاهم في النسب لا في الدين وهو هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص بن أرم بن سام بن نوح، وقيل : هو ابن شالخ بن ارفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام، واختلف في سبب الأخوة من أين حصلت على وجهين : الأوّل : قال الزجاج : إنه كان من بني آدم ومن جنسهم لا من الملائكة ويكفي هذا القدر في تسمية الأخوة، والمعنى : إنا أرسلنا إلى
٥٥٩
عاد واحداً من جنسهم من البشر ليكون الفهم والأنس بكلامه أتم وأكمل ولم يبعث إليهم من غير جنسهم مثل الملك والجنّ، والوجه الثاني : أنّ أخاهم بمعنى صاحبهم والعرب تسمي صاحب القوم أخاهم وكانت منازل عاد بالأحقاف باليمن والأحقاف الرمل الذي عند عمان وحضرموت ﴿قال يا قوم اعبدوا الله﴾ أي : وحدوه ولا تجعلوا معه إلهاً آخر ﴿مالكم من إله غيره﴾.
فإن قيل : لم حذف العاطف من قوله : قال ولم يقل : فقال كما في قصة نوح ؟
أجيب : بأنّ هذا على تقدير سؤال سائل قال : فما قال لهم هود، فقيل : قال : يا قوم، وقيل : إنّ نوحاً كان مواظباً على دعوته قومه غير متوان فيها لأن الفاء تدل على التعقيب وأمّا هود فلم يكن كذلك بل كان دون نوح في المبالغة في الدعاء فأخبر الله تعالى عنه بقوله :﴿يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره﴾ ﴿أفلا تتقون﴾ الله أي : أفلا تخافون عقابه فتؤمنون ولما كانت هذه القصة معطوفة على قصة نوح وقد علم ما حل بهم من الغرق حسن قوله هنا :﴿أفلا تتقون﴾ أي : أفلا تخافون ما نزل بهم من العذاب ولما لم يكن قبل واقعة قوم نوح شيء حسن تخويفهم من العذاب فقال هناك :﴿إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم﴾ (الأحقاف، ٢١)
﴿قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة﴾ أي : في حمق وجهالة وضلالة عن الصواب.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٥٧
فإن قيل : لم قال قوم نوح : إنا لنراك في ضلال مبين، وقوم هود : إنا لنراك في سفاهة ؟
أجيب : بأنّ نوحاً لما خوّف قومه بالطوفان وطفق في عمل السفينة في أرض ليس فيها من الماء شيء قال له قومه : إنا لنراك في ضلال مبين حيث تتعب في إصلاح سفينة في هذه الأرض، وأمّا هود عليه السلام لما زيف عبادة الأصنام ونسب من عبدها إلى السفه وهو قلة العقل قابلوه بمثله فقالوا : إنا لنراك في سفاهة ﴿وإنا لنظنك من الكاذبين﴾ أي : في ادعائك أنك رسول من رب العالمين.
﴿قال﴾ هود لهؤلاء الملأ الذين نسبوه إلى السفه ﴿يا قوم ليس بي سفاهة﴾ أي : ليس الأمر كما تزعمون أنّ بي سفاهة ﴿ولكني رسول من رب العالمين﴾.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٥٧
٥٦٠
﴿أبلغكم رسالات ربي﴾ أي : أؤدي إليكم ما أرسلني به من أوامره ونواهيه وشرائعه وتكاليفه ﴿وأنا لكم ناصح﴾ أي : فيما آمركم به من عبادة الله تعالى ﴿أمين﴾ أي : مأمون على تبليغ الرسالة وأداء النصح والأمين الثقة على ما إئتمن عليه.
فإن قيل : لم قال نوح : وأنصح لكم بصيغة الفعل وقال هود : وأنا لكم ناصح بصيغة اسم الفاعل ؟
أجيب : بأنّ صيغة الفعل تدل على تجدده ساعة بعد ساعة وكان نوح يدعو قومه ليلاً ونهاراً كما أخبر الله تعالى عنه بقوله :﴿رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً﴾ (نوح، ٥)


الصفحة التالية
Icon