﴿وقال الملأ الذين كفروا من قومه﴾ أي : قال جماعة من أشراف قوم شعيب ممن كفر به لآخرين منهم ﴿لئن اتبعتم شعيباً﴾ أي : على دينه وتركتم دينكم وما أنتم عليه ﴿إنكم إذاً لخاسرون﴾ أي : مغبونون لفوات ما يحصل لكم بالبخس والتطفيف أو لاستبدال ضلالته بهداكم وجواب القسم الذي وطأته اللام في لئن اتبعتم شعيباً وجواب الشرط قوله :﴿إنكم إذاً لخاسرون﴾ فهو سادّ مسدّ الجوابين.
﴿فأخذتهم الرجفة﴾ أي : الزلزلة الشديدة ﴿فأصبحوا في دارهم﴾ أي : مدينتهم ﴿جاثمين﴾ أي : باركين على الركب ميتين، قال ابن عباس رضي الله عنهما : فتح الله عليهم باباً من جهنم فأرسل عليهم حرّاً شديداً فأخذ بأنفاسهم ولم ينفعهم ظل ولا ماء فدخلوا في الأسراب ليتبرّدوا فيها فوجدوها أشدّ حرّاً من الظاهر فخرجوا إلى البرية فبعث الله تعالى عليهم سحابة فيها ريح طيبة باردة فأظلتهم وهي الظلة فوجدوا لها برداً ونسيماً فنادى بعضهم بعضاً حتى اجتمعوا تحت السحابة رجالهم ونساؤهم وصبيانهم ألهبها الله عليهم ناراً ورجفت بهم الأرض فاحترقوا كما يحترق الجراد وصاروا رماداً، وروي أنّ الله تعالى حبس عنهم الريح سبعة أيام ثم سلط عليهم الحرّ سبعة أيام ثم رفع لهم جبل من بعيد فأتاه رجل فإذا تحته أنهار وعيون فأتاهم وأخبرهم فاجتمعوا تحته كلهم فوقع ذلك الجبل عليهم فذلك قوله تعالى :﴿عذاب يوم الظلة﴾ (الشعراء، ١٨٩)
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٦٩
وقال قتادة : بعث الله تعالى شعيباً إلى أصحاب الأيكة وأصحاب مدين فأمّا أصحاب الأيكة فأهلكوا بالظلة وأمّا أصحاب مدين فأخذتهم الصيحة صاح بهم جبريل عليه السلام فهلكوا جميعاً، قال أبو عبدا الله البجلي : كان أبو جاد وهوّز وحطي وكلمن وسعفص وقرشت ملوك مدين وكان ملكهم في زمن شعيب يوم الظلة كلمن فلما هلك قالت ابنته شعراً ترثيه وتبكيه :
*كلمن قد هدّركني ** هلكه وسط المحله*
*سيد القوم أتاه ال ** حتف نار تحت ظله*
*جعلت ناراً عليهم ** دارهم كالمضمحله*
وقوله تعالى :
﴿الذين كذبوا شعيباً﴾ مبتدأ خبره ﴿كأن﴾ مخففة واسمها محذوف أي : كأنهم ﴿لم يغنوا﴾ أي : لم يبقوا وينزلوا ﴿فيها﴾ أي : في ديارهم يوماً من الدهر يقال : غنيت بالمكان أي : أقمت به والمغاني المنازل التي بها أهلها واحدها مغني قال الشاعر :
*ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة ** في ظل ملك ثابت الأوتاد*
أراد أقاموا فيه وقيل : كأن لم يعيشوا فيها متنعمين يقال : غني الرجل إذا استغنى وهو من الغنى الذي هو ضدّ الفقر قال الشاعر :
٥٧٠
*غنينا زماناً بالتصعلك والغنى ** وكل سقانا بكاسيهما الدهر*
*فما زادنا بغياً على ذي قرابة ** غنى ولا أزرى بأحسابنا الفقر*
قال الزجاج : معنى غنينا عشنا والتصعلك الفقر يقال للفقير : صعلوك ﴿الذين كذبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين﴾ أي : ديناً ودنيا دون الذين اتبعوه فإنهم الرابحون في الدارين وأكد ذلك بإعادة الموصول وغيره للردّ عليهم في قولهم السابق.
﴿فتولى﴾ أي : أعرض شعيب ﴿عنهم﴾ أي : عن قومه ﴿وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم﴾ أي : قال ذلك لما تيقن نزول العذاب بهم تأسفاً وحزناً عليهم لأنهم كانوا كثيرين وكان يتوقع منهم الإجابة والإيمان ثم أنكر على نفسه فقال :﴿فكيف آسى﴾ أي : أحزن ﴿على قوم كافرين﴾ لأنهم ليسوا أهل حزن لاستحقاقهم ما نزل عليهم بسبب كفرهم، وقيل : قال ذلك اعتذاراً عن عدم شدّة حزنه عليهم والمعنى : لقد بالغت في الإبلاغ والإنذار وبذلت وسعي في النصح فلم يصدّقوا قولي فكيف أحزن عليهم وقوله تعالى :
﴿وما أرسلنا في قرية من نبيّ﴾ فيه إضمار وحذف تقديره : فكذبوه ﴿إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضرّاء﴾ قال ابن مسعود : البأساء الفقر والضرّاء المرض، وقيل : البأساء الشدّة وضيق العيش والضرّاء سوء الحال ﴿لعلهم يضرّعون﴾ أي : فعلنا بهم ذلك لكي يتضرّعوا ويتوبوا والتضرّع التذلل والخضوع والانقياد لأمر الله.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٦٩
ثم بدّلنا مكان السيئة الحسنة﴾
أي : أعطيناهم بدل ما كانوا فيه من البلاء والشدّة السلامة والسعة كقوله تعالى :﴿وبلوناهم بالحسنات والسيئات﴾ (الأعراف، ١٦٨)


الصفحة التالية
Icon