فأخبر الله تعالى بهذه الآية أنه يأخذ أهل المعاصي والكفر تارة بالشدة وتارة بالرخاء على سبيل الاستدراج وهو قوله تعالى :﴿حتى عفوا﴾ أي : كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم يقال : عفا الشعر إذا كثر وطال ومنه قوله ﷺ "وأعفوا اللحى" أي : وفروها وأكثروا شعرها ﴿وقالوا﴾ كفراً للنعمة ﴿قد مس آباءنا الضرّاء والسرّاء﴾ وهذه عادة الدهر قديماً وحديثاً لنا ولآبائنا ولم يكن ما مسنا من الشدّة والضرّاء عقوبة لنا من الله تعالى على ما نحن عليه فكونوا على ما أنتم عليه كما كان آباؤكم من قبل فإنهم لم يتركوا دينهم لما أصابهم من الضراء والسراء قال الله تعالى :﴿فأخذناهم بغتة﴾ أي : فجأة أينما كانوا ليكون ذلك أعظم لحسرتهم ﴿وهم لا يشعرون﴾ أي : بنزول العذاب بهم والمراد بذكر هذه القصة وغيرها من القصص اعتبار من سمعها لينزجر عما هو عليه من الذنوب ويرجع إلى الله تعالى ويزداد الذين آمنوا إيماناً.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٦٩
٥٧١
﴿ولو أنّ أهل القرى﴾ أي : المكذبين ﴿آمنوا﴾ أي : بالله ورسوله ﴿واتقوا﴾ أي : الشرك والمعاصي ﴿لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض﴾ أي : لأتيناهم بالخير من كل جهة، وقيل : بركات السماء المطر وبركات الأرض النبات والثمار والأنعام وجميع ما فيها من الخيرات وكل ذلك من فضل الله تعالى وإحسانه وإنعامه على عباده. وقرأ ابن عامر بتشديد التاء والباقون بالتخفيف ﴿ولكن كذبوا﴾ أي : فعلنا بهم ذلك ليؤمنوا فما آمنوا ولكن كذبوا الرسل ﴿فأخذناهم﴾ أي : عاقبناهم بأنواع العذاب ﴿بما﴾ أي : بسبب ما ﴿كانوا يكسبون﴾ من الكفر والمعاصي.
وقوله تعالى :
﴿أفأمن أهل القرى﴾ عطف على قوله تعالى :﴿فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون﴾ وما بينما اعتراض والمعنى : أبعد ذلك أمن أهل القرى ﴿أن يأتيهم بأسنا﴾ أي : عذابنا ﴿بياتاً﴾ أي : ليلاً وقوله تعالى :﴿وهم نائمون﴾ حال من ضمير هم البارز أو المستتر في بياتاً.
﴿أو أمن أهل القرى﴾ هو استفهام بمعنى الإنكار وفيه وعيد وزجر وتهديد والمراد بالقرى مكة وما حولها وقيل : هو عام في كل أهل القرى الذين كفروا وكذبوا. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر بسكون الواو والباقون بفتح الواو ﴿أن يأتيهم بأسنا ضحى﴾ أي : نهاراً لأن الضحى صدر النهار ﴿وهم يلعبون﴾ أي : وهم ساهون لاهون غافلون عما يراد بهم وقوله تعالى :
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٧١
أفأمنوا مكر الله﴾
تقرير لقوله تعالى :﴿أفأمن أهل القرى﴾ ومكر الله استعارة لاستدراج العبد بالنعم في الدنيا وأخذه من حيث لا يحتسب ﴿فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون﴾ أي : إنه لا يأمن استدراجه إياهم بالنعم وأخذهم بغتة إلا من خسر في أخراه وهلك مع الهالكين فعلى العاقل أن يكون في خوفه من الله تعالى كالمحارب الذي يخاف من عدوّه المتمكن البيات والغيلة، وعن الربيع بن خيثم رحمه الله تعالى أنّ ابنته قالت له : مالي أرى الناس ينامون ولا أراك تنام ؟
فقال : يا ابنتاه إن أباك يخاف البيات أراد قوله تعالى :﴿أن يأتيهم بأسنا بياتاً﴾ :﴿أولم يهد﴾ أي : يتبين ﴿للذين يرثون الأرض﴾ أن يسكنونها ﴿من بعد﴾ هلاك ﴿أهلها﴾ الذين كانوا من قبلهم فورثوها عنهم وخلفوهم فيها ﴿أن لو نشاء أصبناهم﴾ بالعذاب ﴿بذنوبهم﴾ كما أصبنا من قبلهم والهمزة للتوبيخ وأن لو نشاء مرفوع بأنه فاعل يهد أي : أولم يهد للذين يخلفون من خلا قبلهم في ديارهم ويرثون أرضهم هذا الشأن وهو أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم أي : بسببها كما
٥٧٢
أصبنا من قبلهم وأهلكنا الوارثين منهم كما أهلكنا المورثين وإنما عدى فعل الهداية باللام لأنه بمعنى التبيين كما مرّ.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بإبدال الهمزة الثانية واواً في الوصل والباقون بتحقيقهما وقوله تعالى :﴿ونطبع﴾ أي : نختم ﴿على قلوبهم﴾ معطوف على ما دلّ عليه ﴿أولم يهد﴾ كأنه قيل : يغفلون عن الهداية ونطبع على قلوبهم أو على يرثون الأرض أو يكون منقطعاً بمعنى : ونحن نطبع على قلوبهم ﴿فهم لا يسمعون﴾ موعظة أي : لا يقبلونها ومنه سمع الله لمن حمده قال الشاعر :
*دعوت الله حتى خفت أن لا ** يكون الله يسمع ما أقول*
أي : يقبله ويستجيبه.


الصفحة التالية
Icon