ثلثمائة بعير فلما ابتلعتها عصا موسى عليه السلام كلها قال بعضهم لبعض : هذا أمر خارج عن هذا السحر وما هو إلا من أمر السماء فآمنوا وصدّقوا.
فإن قيل : كان يجب أن يأتوا بالإيمان قبل السجود فما فائدة تقديم السجود على الإيمان ؟
أجيب : بأنّ الله تعالى لما قذف في قلوبهم الإيمان والمعرفة خرّوا سجداً لله تعالى شكراً على ما هداهم إليه وألهمهم من الإيمان بالله تعالى وتصديق رسوله ثم أظهروا بعد ذلك إيمانهم قال قتادة : كانوا أوّل النهار كفاراً سحرة وفي آخره شهداء بررة، وعن الحسن : نرى من ولد في الإسلام ونشأ بين المسلمين يبيع دينه بكذا وكذا وهؤلاء الكفار نشؤوا في الكفر بذلوا أنفسهم لله تعالى.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٧٨
قال فرعون﴾
للسحرة منكراً عليهم موبخاً لهم بقوله :﴿آمنتم﴾ أي : صدقتم ﴿به﴾ أي : بموسى أو بالله تعالى والاستفهام فيه للإنكار والتوبيخ.
فائدة : هنا ثلاث همزات جميع القراء بإبدال الثالثة ألفاً وحقق الثانية شعبة وحمزة والكسائي وسهلها نافع وابن كثير وأبو عمر وابن عامر وأمّا حفص فإنه أسقط الأولى وأبدلها قنبل في الوصل واواً ﴿قبل أن آذن لكم﴾ أي : قبل أن آمركم بذلك وآذن لكم فيه ﴿إنّ هذا لمكر مكرتموه﴾ أي : إن هذا الصنيع لحيلة احتلتموها أنتم وموسى ﴿في المدينة﴾ أي : مصر قبل خروجكم إلى هذا الموضع، وذلك أنّ فرعون رأى موسى يحدّث كبير السحرة فظن فرعون أن موسى وكبير السحرة قد تواطؤوا عليه وعلى أهل مصر ليستولوا على مصر كما قال :﴿لتخرجوا منها أهلها﴾ أي : القبط وتخلص لكم ولبني إسرائيل وقوله تعالى :﴿فسوف تعلمون﴾ فيه وعيد وتهديد أي : فسوف تعلمون ما أفعل بكم ثم فسر ذلك الوعيد بقوله :
﴿لأقطعنّ أيديكم وأرجلكم من خلاف﴾ أي : يخالف الطرف الذي تقطع منه اليد الطرف الذي تقطع منه الرجل، قال الكلبي : لأقطعنّ أيديكم اليمنى وأرجلكم اليسرى ﴿ثم لأصلبنكم﴾ أي : أعاقبكم ممددة أيديكم لتصير على هيئة الصليب أو حتى يتقاطر صليبكم وهو الدهن الذي فيكم ﴿أجمعين﴾ أي : لا أترك منكم أحداً تفضيحاً لكم وتنكيلاً لأمثالكم قال ابن عباس : أوّل من صلب وقطع الأيدي والأرجل فرعون أي : إنه أوّل من سنّ ذلك فشرعه الله تعالى للقطاع تعظيماً لجرمهم ولذلك سماه محاربة الله ورسوله ولكن على التعاقب لفرط رحمته.
﴿قالوا﴾ أي : السحرة مجيبين لفرعون حين وعدهم بما ذكر ﴿إنا إلى ربنا﴾ بعد موتنا على أيّ وجه كان ﴿منقلبون﴾ أي : راجعون إليه في الآخرة.
﴿وما تنقم﴾ أي : تنكر ﴿منا﴾ أي : في فعلك ذلك بنا وتعيب علينا ﴿إلا أن آمنا﴾ أي : إلا ما هو أصل المفاخر كلها وهو الإيمان ﴿بآيات ربنا لما جاءتنا﴾ لم نتأخر عن معرفة الصدق وهذا موجب الإكرام لا الإنتقام ثم فزعوا إلى الله تعالى فقالوا :﴿ربنا أفرغ علينا صبراً﴾ عندما توعدهم فرعون به أي : اصبب علينا صبراً كاملاً تاماً ولهذا أتى بلفظ التنكير أي : صبراً وأيّ صبر عظيم ﴿وتوفنا مسلمين﴾ أي : واقبضنا على دين الإسلام وهو دين خليلك عليه السلام قال ابن عباس : كانوا في أوّل النهار سحرة وفي آخر النهار شهداء، قال الطيبيّ : إنّ فرعون قطع أيديهم وأرجلم وصلبهم، وقال غيره : إنه لم يقدر عليهم لقوله تعالى :﴿بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون﴾ (القصص، ٣٥).
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٧٨
تنبيه : في الآية فوائد الأولى قولهم :﴿أفرغ علينا صبراً﴾ أكمل من قولهم أنزل علينا صبراً
٥٧٩
لأن إفراغ الإناء هو صب ما فيه بالكلية فكأنهم طلبوا من الله تعالى كل الصبر لا بعضه، الثانية : إنّ قولهم صبراً مذكور بصيغة التنكير وذلك يدل على تمام الكمال أي : صبراً تاماً كاملاً، الثالثة : إن ذكر الصبر من قبلهم ومن أعمالهم ثم إنهم طلبوه من الله تعالى وذلك يدل على أنّ فعل العبد لا يحصل إلا بتخليق الله تعالى وقضائه، الرابعة : احتج القاضي بهذه الآية على أنّ الإيمان والإسلام واحد فقال : إنهم قالوا أوّلاً : آمنا بآيات ربنا، ثم قالوا ثانياً : وتوفنا مسلمين فوجب أن يكون ذلك الإيمان هو ذلك الإسلام وذلك يدل على أنّ أحدهما هو الآخر واعلم أنّ فرعون بعد وقوع هذه الواقعة لم يتعرّض لموسى لأنه كان كلما رأى موسى عليه السلام خافه أشدّ الخوف فلهذا السبب لم يتعرّض له إلا أن القوم لم يعرفوا ذلك فقالوا له :﴿أتذر موسى وقومه﴾ كما حكى الله تعالى ذلك عنهم بقوله تعالى :
﴿وقال الملأ﴾ أي : الأشراف ﴿من قوم فرعون﴾ له ﴿أتذر﴾ أي : تترك ﴿موسى وقومه﴾ من بني إسرائيل ﴿ليفسدوا في الأرض﴾ أي : أرض مصر وأراد بالفساد فيها أنهم يأمرونهم بمخالفة فرعون وهو قولهم :﴿ويذرك وآلهتك﴾ أي : معبوداتك أي : فلا يعبدك ولا يعبدها، قال ابن عباس : كان لفرعون بقرة حسنة يعبدها وكان إذا رأى بقرة حسنة أمرهم بعبادتها ولذلك أخرج لهم السامري عجلاً، وقال السدي : كان فرعون اتخذ لقومه أصناماً وكان يأمرهم بعبادتها وقال لهم : أنا ربكم ورب هذه الأصنام وذلك قوله :﴿أنا ربكم الأعلى﴾.


الصفحة التالية
Icon