فإن قيل : إنّ فرعون إن لم يكن كامل العقل لم يجز في حكمة الله تعالى إرسال الرسل إليه وإن كان عاقلاً لم يجز أن يعتقد في نفسه كونه خالق السموات والأرض لأنّ فساد معلوم بالضرورة ؟
أجيب : بأن الأقرب أن يكون دهرياً منكر الوجود الصانع وكان يقول : مدبر هذا السفلي هو الكواكب واتخذ أصناماً على صورة الكواكب وكان يعبدها ويأمر بعبادتها وكان يقول في نفسه : إنه المطاع المخدوم في الأرض ولهذا قال :﴿أنا ربكم الأعلى﴾ ﴿قال﴾ فرعون مجيباً لملئه حين قالوا له : أتذر موسى وقومه ﴿سنقتل أبناءهم﴾ أي : المولودين ﴿ونستحيي نساءهم﴾ أي : نتركهم أحياء كما كنا نفعل من قبل ليعلم أنا على ما كنا عليه من القهر والغلبة ولا يتوهم إنه المولود الذي حكم المنجمون والكهنة بذهاب ملكك على يديه. وقرأ نافع وابن كثير بفتح النون وسكون القاف وضم التاء مخففة والباقون بضم النون وفتح القاف وكسر التاء مشدّدة ﴿وإنا فوقهم قاهرون﴾ أي : غالبون وهم مقهورون تحت أيدينا ولا أثر لغلبة موسى لنا في هذه المناظرة فأعادوا عليهم القتل فشكت بنو إسرائيل لموسى فأمرهم بالصبر كما قال تعالى :
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٧٨
قال موسى لقومه﴾
أي : بني إسرائيل ﴿استعينوا با واصبروا﴾ أي : استعينوا بالله على فرعون وقومه فيما نزل بكم من البلاء فإن الله تعالى هو الكافي لكم واصبروا على ما نالكم من المكاره في أنفسكم وأبنائكم ﴿إنّ الأرض﴾ أي : أرض مصر وإن كانت الأرض كلها ﴿﴾ تعالى لأنّ الكلام فيها ﴿يورثها من يشاء من عباده﴾ وفي هذا تسلية لهم وتقريراً للأمر بالاستعانة بالله عز وجل والتثبت في الأمر وقوله تعالى :﴿والعاقبة﴾ أي : المحمودة ﴿للمتقين﴾ لأنّ الله تعالى وعدهم بالنصر وتذكير لما وعدهم به من إهلاك القبط وتوريثهم ديارهم وتحقيق له ولما سمع بنو إسرائيل ما قال فرعون من توعده لهم بالقتل مرّة ثانية.
﴿قالوا﴾ لموسى ﴿أوذينا من قبل أن تأتينا﴾ أي : بالرسالة وذلك إن بني إسرائيل كانوا مستضعفين في يد فرعون وقومه وكان يأخذ منهم الجزية وكان يستعملهم في الأعمال الشاقة إلى
٥٨٠
نصف النهار ويمنعهم من الترفه والتنعم ويقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم فلما جاء موسى بالرسالة وجرى له ما جرى شدد فرعون في استعمالهم فكان يستعملهم جميع النهار بلا أجر وأراد أن يعيد القتل عليهم فقالوا : أوذينا من قبل أن تأتينا ﴿ومن بعد ما جئتنا﴾ أي : بالرسالة.
فإن قيل : ظاهر هذا الكلام يوهم أن بني إسرائيل كرهوا مجيء موسى بالرسالة وذلك كفر أجيب : عن هذا الإيهام بأنّ موسى عليه السلام كان قد وعدهم بزوال ما كانوا فيه من الشدّة والمشقة فظنوا أنّ ذلك يكون على الفور فلما رأوا أنّ المشقة قد زادت عليهم قالوا ذلك أي : فمتى يكون ما وعدتنا به من زوال ما نحن فيه ﴿قال﴾ موسى عليه السلام مجيباً لهم :﴿عسى ربكم أن يهلك عدوّكم﴾ أي : فرعون وقومه ﴿ويستخلفكم في الأرض﴾ أي : يجعلكم تخلفونهم في أرضهم بعد هلاكهم، قال البيضاوي : ولعله أتى بفعل الطمع أي : بعسى لعدم جزمه بأنهم المستخلفون بأعيانهم أو أولادهم.
وقد روي أنّ مصر إنما فتح لهم في زمن داود عليه السلام ثم سبب عن الاستخلاف قوله تعالى مذكراً لهم محذراً من سطواته تعالى :﴿فينظر﴾ أي : وأنتم خلفاء متمكنون ﴿كيف تعملون﴾ أي : يعاملكم معاملة المختبر وهو في الأزل أعلم بما تعملون منكم بعد إبقاعكم للأعمال ولكنه يفعل ذلك لتقوم الحجة عليكم على مجاري عاداته.
روي عن عمرو بن عبيد أنه دخل على المنصور قبل الخلافة وعلى مائدته رغيف أو رغيفان فطلب زيادة لعمرو فلم يجد فقرأ عمرو هذه الآية ثم دخل عليه بعدما استخلف فذكر له ذلك وقال : قد بقي فينظر كيف تعملون.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٧٨
ولقد أخدنا آل فرعون﴾
أي : فرعون وقومه ﴿بالسنين﴾ أي : بالقحط والجوع سنة بعد سنة فإنّ السنة تطلق بالغلبة على ذلك كما تطلق على العام ومنه قوله ﷺ "اللهمّ اجعلها عليهم كسني يوسف" ﴿ونقص من الثمرات﴾ أي : بالعاهات، قال قتادة : أمّا السنين فلأهل البوادي وأمّا نقص الثمرات فلأهل الأمصار، وعن كعب يأتي على الناس زمان لا تحمل النخلة إلا تمرة ﴿لعلهم يذكرون﴾ أي : يتعظون فيؤمنون ويرجعون عما هم عليه من الكفر والمعاصي لأنّ الشدّة ترقق القلوب وترغب فيما عند الله تعالى من الخيرات والدليل على ذلك قوله تعالى :﴿وإذا مسكم الضرّ في البحر ضلّ من تدعون إلا إياه﴾ (الإسراء، ٦٧)
وقوله تعالى :﴿وإذا مسه الشرّ فذو دعاء عريض﴾ (فصلت، ٥١)
وقال سعيد بن جبير : عاش فرعون أربعمائة سنة لم ير مكروهاً في نفسه ثلثمائة وعشرين سنة ولو أصابه في تلك المدّة وجع أو جوع أو حمى لما ادعى الربوبية ثم بين سبحانه وتعالى أنهم عند نزول تلك المحن عليهم يقدمون على ما يزيد في كفرهم ومعصيتهم فقال :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٧٨


الصفحة التالية
Icon