﴿فإذا جاءتهم الحسنة﴾ قال ابن عباس : العشب والخصب والثمار والمواشي والسعة في الرزق والعافية والسلامة ﴿قالوا لنا هذه﴾ أي : نحن مستحقوه على العادة التي جرت من كثرة نعمتنا وسعة أرزاقنا ولم يعلموا أنه من الله تعالى فيشكروه على أنعامه ﴿وإن تصبهم سيئة﴾ أي : قحط وجدب ومرض وبلاء ورأوا ما يكرهونه في أنفسهم ﴿يطيروا﴾ يتشاءموا وأصله يتطيروا ﴿بموسى ومن معه﴾ من المؤمنين، ويقولون : ما أصابنا إلا بشؤمهم وهذا إغراق في وصفهم في
٥٨١
الغباوة والقساوة فإن الشدائد ترقق القلوب وتذلل العرائك وتزيل التماسك سيما بعد مشاهدة الآيات وهي لم تؤثر فيهم بل زادوا عندها عتوّاً وانتهاكاً في البغي وإنما عرّف الحسنة وذكرها مع أداة التحقيق لكثرة وقوعها وتعلق الإرادة بأحداثها بالذات ونكر السيئة وأتى بها مع حرف الشك لندورها وعدم القصد إلا بالتبع ﴿ألا إنما طائرهم عند الله﴾ أي : سبب خيرهم وشرهم عنده تعالى وهو حكمه ومشيئته أو سبب شؤمهم عند الله تعالى وهو أعمالهم المكتوبة عنده فإنها التي ساقت إليهم ما يسوءهم ﴿ولكنّ أكثرهم لا يعلمون﴾ أي : إنّ ما يصيبهم من الله تعالى وذلك لأنّ أكثر الخلق يضيفون الحوادث إلى الأسباب المحسوسة ويقطعونها عن قضاء الله تعالى وتقديره : والحق أنّ الكل من الله تعالى لأنّ كل موجود إما واجب لذاته أو ممكن لذاته والواجب لذاته واحد وما سواه ممكن لذاته والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته وبهذا الطريق يكون الكل من الله تعالى فإسناده إلى غير الله تعالى يكون جهلاً بكمال الله تعالى.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٨١
وقالوا﴾
أي : فرعون وقومه القبط لموسى عليه السلام ﴿مهما تأتنا به﴾ وقوله تعالى :﴿من آية﴾ أي : من عند ربك بيان لمهما وإنما سموها آية على زعم موسى لا لاعتقادهم ولذلك قالوا :﴿لتسحرنا بها﴾ أي : لتصرفنا عما نحن عليه من الدين ﴿فما نحن لك بمؤمنين﴾ أي : بمصدّقين.
تنبيه : اختلف في أصل مهما فقيل : أصلها ما ما الأولى ما الشرطية والثانية ما الزائدة ضمت إليها للتأكيد ثم قلبت ألفها هاء استثقالاً لتكرير المتجانسين فصارت مهما هذا قول الخليل والبصريين، وقيل : أصلها مه التي بمعنى اكفف وما الجزائية كأنهم قالوا : اكفف ما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فهو كذا وكذا هذا قول الكسائي فهي مركبة على هذين القولين والمعتمد الذي جرى عليه ابن هشام وغيره أنها بسيطة لأنّ دعوى التركيب لم يقم عليها دليل ووزنها فعلى وألفها للإلحاق أو للتأنيث والضميران في به وبها راجعان لمهما إلا أن أحدهما ذكر باعتبار اللفط والثاني أنث باعتبار المعنى لأنه في معنى الآية ونحوه قول زهير :
*ومهما يكن عند امرىء من خليقة ** وإذ خالها تخفى على الناس تعلم*
قال في الكشاف : وهذه الكلمة في عداد الكلمات التي يحرّفها من لا يد له في علم العربية فيضعها في غير موضعها ويحسب أنها بمعنى متى ما ويقول : مهما جئتني أعطيتك قال ابن عباس : إنّ القوم لما قالوا مهما تأتنا به من آية من ربك فهي عندنا من باب السحر ونحن لا نؤمن بها البتة وكان موسى عليه السلام رجلاً حديداً فعند ذلك دعا عليهم فاستجاب الله تعالى له فقال تعالى :
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٨١
فأرسلنا عليهم الطوفان﴾
وقال سعيد بن جبير : لما آمنت السحرة ورجع فرعون مغلوباً أبى هو وقومه إلا الإقامة على الكفر والتمادي على الشر فتابع الله تعالى عليهم الآيات فأخذهم أوّلاً بالسنين وهو القحط ونقص الثمرات وأراهم قبل ذلك من المعجزات اليد والعصا فلم يؤمنوا فدعا عليهم موسى وقال : يا رب إنّ عبدك فرعون علا في الأرض وبغى وعتا وإنّ قومه قد نقضوا العهد فخذهم بعقوبة تجعلها عليهم نقمة ولقومي عظة ولمن بعدهم آية وعبرة فبعث الله تعالى عليهم الطوفان وهو الماء فأرسل الله تعالى المطر من السماء وبيوت بني إسرائيل وبيوت القبط مشتبكة
٥٨٢


الصفحة التالية
Icon