ولما وقع عليهم الرجز} أي : نزل بهم العذاب وهو ما ذكره الله تعالى من الطوفان وما بعده، وقال سعيد بن جبير : الرجز الطاعون وهو العذاب السادس بعد الآيات الخمس التي تقدّمت فنزل بهم الطاعون فمات به من القبط في يوم واحد سبعون ألفاً وتركوا غير مدفونين، قال الإمام الرازي : والقول الأوّل أقوى لأنّ لفظ الرجز مفرد محلى بالألف واللام فينصرف إلى المعهود السابق وههنا المعهود السابق هو الأنواع الخمسة التي تقدّم ذكرها وأمّا غيرها فمشكوك فيه فحمل اللفظ على المعلوم أولى من حمله على المشكوك فيه، وعن أسامة بن زيد : الطاعون رجز أرسل على طائفة من بني إسرائيل وعلى من كان قبلكم فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فراراً منه ﴿قالوا يا موسى ادع لنا ربك﴾ ولم يقولوا ربنا كبراً وعتواً ﴿بما عهد عندك﴾ أي : بعهده عندك وهو النبوة وسميت عهداً لأن الله تعالى عهد أن يكرم النبيّ وهو عهد أن يستقل بأعبائها أو بالذي عهده إليك أن تدعوه به فيجيبك كما أجابك به في آياتك والباء إمّا أن تتعلق بقوله :﴿ادع لنا ربك﴾ على وجهين : أحدهما : أسعفنا إلى ما نطلب منك من الدعاء لك بحق ما عندك من عهد الله وكرامته بالنبوة أو ادع الله لنا متوسلاً إليه بعهده عندك وإمّا أن يكون قسماً مجاباً بقوله تعالى :﴿لئن كشفت عنا الرجز لنؤمننّ لك﴾ أي : أقسمنا بعهد الله تعالى عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمننّ لك ﴿ولنرسلنّ معك بني إسرائيل﴾ أي : لنصدّقنك بما جئت به
٥٨٤
ولنخلين بني إسرائيل ليذهبوا حيث شاؤوا.
﴿فلما كشفنا عنهم الرجز﴾ أي : بدعاء موسى عليه السلام ﴿إلى أجل هم بالغوه﴾ أي : إلى حدّ من الزمان هم بالغوه لا محالة فمعذبون فيه لا ينفعهم ما تقدّم لهم من الإمهال وكشف العذاب إلى حلوله وهو وقت إهلاكهم بالغرق في اليمّ وقوله تعالى :﴿إذا هم ينكثون﴾ جواب لما أي : فلما كشفنا عنهم فاجؤا النكث من غير توقف وتأمّل فيه.
فإن قيل : إنّ الله تعالى علم من حال هؤلاء أنهم لا يؤمنون بتلك المعجزات فما الفائدة في تواليها عليهم وإظهار الكثير منها ؟
أجيب : بأنّ الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا يسئل عما يفعل قال تعالى :
﴿فانتقمنا منهم﴾ أي : كافأناهم على سوء صنيعهم وأصل الانتقام في اللغة سلب النعمة بالعذاب لأنه تعالى لما كشف عنهم العذاب مرّات فلم يؤمنوا ولم يرجعوا عن كفرهم وبلغوا الأجل الذي أجل لهم انتقم منهم بأن أهلكهم كما قال تعالى :﴿فأغرقناهم في اليمّ﴾ أي : في البحر الذي لا يدرك قعره، وقيل : هو لجة البحر ومعظم مائه واشتقاقه من التيمم لأنّ المنتفعين به يقصدونه قال الأزهريّ : ويقع اليمّ على البحر الملح والبحر العذب ويدل على ذلك قوله تعالى :﴿فاقذفيه في اليمّ﴾ (طه، ٣٩)
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٨١
والمراد نيل مصر وهو عذب، وإغراقهم ﴿بأنهم﴾ أي : بسبب أنهم ﴿كذبوا بآياتنا﴾ الدالة على وحدانيتنا وصدق رسولنا ﴿وكانوا عنها﴾ أي : الآيات ﴿غافلين﴾ أي : لا يتدبرونها، وقيل : الضمير في عنها يرجع للنقمة التي دل عليها قوله تعالى :﴿انتقمنا﴾ أي : وكانوا عن النقمة قبل حلولها غافلين.
فإن قيل : الغفلة ليست من فعل الإنسان ولا تحصل باختياره فكيف جاء الوعيد على الغفلة أجيب : بأنّ المراد بالغفلة هنا الإعراض عن الآيات وعدم الالتفات إليها فهم أعرضوا عنها حتى صاروا كالغافلين عنها.
فإن قيل : أليس قد ضموا إلى التكذيب والغفلة معاصي كثيرة فكيف يكون الانتقام بهذين دون غيرهما ؟
أجيب : بأنه ليس في بيان أنه تعالى انتقم منهم بهذين دلالة على نفي ما عداهما. قال الرازي : والآية تدل على أنّ الواجب في الآيات النظر فيها فلذلك ذمّهم بأنهم غفلوا عنها وذلك يدل على أنّ التقليد طريق مذموم ولما بين تعالى إهلاك القوم بالغرق على وجه العقوبة بين تعالى ما فعله بالمؤمنين من الخيرات وهو أنه تعالى أورثهم أرضهم وديارهم فقال تعالى :
﴿وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون﴾ أي : بالاستعباد وذبح الأبناء وأخذ الجزية والأعمال الشاقة وهم بنو إسرائيل ﴿مشارق الأرض ومغاربها﴾ أي : أرض الشأم وهي من الفرات إلى بحر سرف الموضع الذي خرجوا منه من البحر وغرق فيه فرعون وآله كما نقله البقاعي في المائدة عن التوراة، وقيل : المراد جملة الأرض لأنه خرج من جملة بني إسرائيل داود وسليمان عليهما السلام وقد ملكا الأرض ويدل للأوّل قوله تعالى :﴿التي باركنا فيها﴾ أي : بالخصب وسعة الأرزاق وذلك لا يليق إلا بأرض الشأم ﴿وتمت كلمت ربك الحسنى على بني إسرائيل﴾ أي : مضت عليهم واستمرّت من قولهم تم عليه الأمر إذا قضي وهي قوله تعالى :﴿ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض﴾ (القصص، ٥)
الخ.. والحسنى تأنيث الأحسن صفة للكلمة ومعنى تمت عليهم إنجاز الوعيد الذي تقدّ بإهلاك عدوّهم واستخلافهم في الأرض وإنما كان الإنجاز
٥٨٥


الصفحة التالية
Icon