وقال : إن الكرام كثير (أي : كرماً) في البلاد وإن قلوا (أي : عدداً)، كما غيرهم (قل بضم القاف وكسرها أي : قليل كرماً) وإن كثروا.
أي : عدداً ﴿وما يضلّ به إلا الفاسقين﴾ أي : الخارجين عن حدّ الإيمان بالكفر كقوله تعالى :﴿إنّ المنافقين هم الفاسقون﴾ (التوبة، ٦٧) وتخصيص الإضلال بهم مرتباً على صفة الفسق يدل على أنه الذي أعدهم للإضلال وأدى بهم إلى الضلال بالمثل وسبب ضلالتهم به أن كفرهم وعدولهم عن الحق وإصرارهم بالباطل صرفت وجوه أفكارهم عن حكمة المثل إلى حقارة الممثل به حتى رسخت به جهالتهم وازدادت به ضلالتهم فأنكروا المثل واستهزؤوا به، وأمّا الفاسق في الشرع فهو الخارج عن أمر الله بارتكاب كبيرة أو إصرار على صغيرة ولم تغلب طاعاته على معاصيه ولا يخرجه ذلك عن الإيمان إلا إذا اعتقد حل المعصية سواء أكانت كبيرة أم صغيرة قال تعالى :﴿وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا﴾ (الحجرات، ٩) والمعتزلة جعلوا الفاسق قسماً ثالثاً نازلاً بين منزلتي المؤمن والكافر لمشاركة كل واحد منهما في بعض الأحكام.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٨
ثم بين سبحانه وتعالى صفة الفاسقين بقوله :﴿الذين ينقضون عهد الله﴾ وهو إمّا المأخوذ بالعقل وهو الحجة القائمة على عباده الدالة على توحيده ووجوب وجوده وصدق رسله وعليه يدلّ قوله تعالى :﴿وأشهدهم على أنفسهم﴾ (الأعراف، ١٧٢) وإمّا المأخوذ بالرسل على الأمم بأنهم إذا بعث إليهم رسول مصدّق بالمعجزات صدّقوه واتبعوه ولم يكتموا أمره
٥٠
ولم يخالفوا حكمه وعليه يدل قوله تعالى :﴿وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب﴾ (آل عمران، ١٨٧) الآية وقيل : عهود الله ثلاثة : عهد أخذه بواسطة العقل على جميع ذرّية آدم بأن يقروا بربوبيته، وعهد أخذه بواسطة الملك على النبيين بأن يقيموا الدين ولا يتفرّقوا فيه، وعهد أخذه بواسطة الرسل على العلماء بأن يبينوا الحق ولا يكتموه، وقوله تعالى :﴿من بعد ميثاقه﴾ أي : توكيده، يحتمل عود الضمير للعهد فهو من إضافة المصدر إلى المفعول أو لله فهو من إضافة المصدر إلى الفاعل، قال البيضاويّ : ويحتمل أن يكون بمعنى المصدر واعترض : بأنّ النحويين لم يذكروا مفعالاً في صيغ المصادر، وأصله أن يكون وصفاً كمطعام ومسقام. وأجيب : بحمل ذلك على أنه اسم واقع موقع المصدر كما يشير إليه قوله بمعنى المصدر :﴿ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل﴾ وهو الرحم لأنهم قطعوا رحم النبيّ ﷺ بالمعاداة معه، ويحتمل كل قطيعة لا يرضاها الله تعالى كقطع الرحم والإعراض عن موالاة المؤمنين والتفرقة بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والكتب في التصديق وترك الجماعات وسائر ما فيه رفض خير أو تعاطي شرّ فإنه يقطع الوصلة بين الله وبين العبد المقصودة بالذات من كل وصل وفصل والأمر هو القول الطالب للفعل، وقيل : مع العلوّ، وقيل : مع الاستعلاء، وأن يوصل بدل من الهاء، وقرأ ورش بتغليظ اللام وصلاً وإذا وقف رقق وغلظ وأدغم خلف النون في الياء بغير غنة ﴿ويفسدون في الأرض﴾ بالمعاصي وتعويق الناس عن الإيمان بمحمد ﷺ والاستهزاء بالحق وقطع الوصل التي بها نظام العالم وصلاحه ﴿أولئك هم الخاسرون﴾ بفوات التوبة والمصير إلى العقوبة بإهمال العقل عن النظر واقتناص ما يفيدهم الحياة الأبدية واستبدال الإنكار والطعن في الآيات بالإيمان بها والنظر في حقائقها والاقتباس من أنوارها، واشتروا النقض بالوفاء ؛ والفساد بالصلاة ؛ والعقاب بالثواب. ثم وبخ سبحانه وتعالى الكفار بقوله :
﴿كيف تكفرون با﴾ أي : أخبروني على أي حال تكفرون ﴿وكنتم أمواتاً﴾ أي : نطفاً في أصلاب آبائكم لا إحساس لكم ﴿فأحياكم﴾ في الأرحام ثم في الدنيا بخلق الأرواح ونفخها فيكم وإنما عطفه بالفاء لأنه متصل بما عطف عليه غير متراخ عنه بخلاف البواقي، وقرأ الكسائي بالإمالة، وورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح. ﴿ثم يميتكم﴾ عند انقضاء آجالكم ﴿ثم يحييكم﴾ للبعث يوم ينفخ في الصور أو للسؤال في القبور.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٨
قال التفتازاني : ولم لا يجوز أن يراد مطلق الإحياء بعد الإماتة على ما يعم الإحياء في القبور والنشور، ولا بعد فيه لشدّة ارتباط الإحياءين واتصالهما في الانقطاع عن أمر الدنيا ﴿ثم إليه ترجعون﴾ تردّون بعد الحشر فيجازيكم بأعمالكم أو تنشرون إليه من قبوركم للحساب فما أعجب كفركم مع عملكم بحالكم هذه.
فإن قيل : إن علموا أنهم كانوا أمواتاً فأحياهم ثم يميتهم لم يعلموا أنه يحييهم ثم إليه يرجعون أجيب : بأن تمكنهم من العلم بما نصب لهم من الدلائل منزل منزلة علمهم في إزاحة العذر سيما في الآية تنبيه على ما يدل على صحتهما وهو أنه تعالى لما قدر على إحيائهم أولاً قدر على أن يحييهم ثانياً فإنّ بدء الخلق ليس بأهون عليه من إعادته.