الأوّل : أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ عليهم كتاب الله تعالى منظوماً مرّة بعد أخرى من غير تبديل ألفاظه ولا تغيير كلماته والخطيب من العرب إذا ارتجل خطبة ثم أعادها فلا بدّ وأن يزيد فيها أو أن ينقص عنها بالقليل والكثير ثم إنه عليه الصلاة والسلام مع أنه ما كان يكتب ولا يقرأ يتلو كتاب الله تعالى من غير زيادة ولا نقصان ولا تغيير فكان ذلك معجزة وإليه الإشارة بقوله تعالى :﴿سنقرئك فلا تنسى﴾ (الأعلى، ٦)
الثاني : أنه لو كان يحسن الخط والقراءة لكان متهماً في أنه ربما طالع كتب الأوّلين فحصل هذه العلوم من تلك المطالعة فلما أتى بهذا القرآن العظيم المشتمل على العلوم الكثيرة من غير تعلم ولا مطالعة كان ذلك من المعجزات وهذا هو المراد من قوله تعالى :﴿وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون﴾ (العنكبوت، ٤٨)
الثالث : تعلم الخط شيء سهل فإن أقلّ الناس ذكاء وفطنة يتعلمون الخط بأدنى سعي فعدم تعلمه يدل على نقصان عظيم في الفهم ثم إنه تعالى آتاه علوم الأوّلين والآخرين وأعطاه من العلوم والحقائق ما لم يصل إليه أحد من الخلق ومع تلك القوّة العظيمة في العقل والفهم جعله بحيث لم يتعلم الخط الذي يسهل تعلمه على أقل الخلق عقلاً وفهماً فكان الجمع بين هاتين الحالتين المتضادتين جارياً مجرى الجمع بين الضدين وذلك من الأمور الخارقة للعادة وجارية مجرى المعجزات وهذا الاتباع تارة يكون بالقوّة فقط لمن تقدم موته على زمانه ﷺ وتارة يخرج من القوّة إلى الفعل كمن لحق زمان دعوته فمن علم الله تعالى منه أنه لا يتبعه إذا أدركه لا يغفر له ولو عمل جميع الطاعات غير ذلك وعرّفه لهم بجميع خواصه حتى لا يتطرق إليه عند مجيئه ريب ولا يتعلل في أمره بعلة ولذلك اتبعه.
﴿الذي يجدونه﴾ أي : علماء بني إسرائيل ﴿مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل﴾ باسمه ونعته ولكنهم كتموا ذلك وبدلوه وغيروه حسداً منهم له وخوفاً على زوال رياستهم وقد حصل لهم ما كانوا
٦٠٠
يخافونه فقد زالت رياستهم ووقعوا في الذل والهوان وعن عطاء بن يسار قال : لقيت عبد الله بن عمرو بن العاصي رضي الله عنهما فقلت : أخبرني عن صفة رسول الله ﷺ في التوراة فقال : أجل إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن يا أيها النبيّ إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحرزاً للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ولا يدفع السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويغفر ولن يقبضه الله تعالى حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا : لا إله إلا الله ويفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاء، انتهى.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٩٩
شرح غريب ألفاظه : الفظ : السيء الخلق، والغليظ : الجافي القاسي، والسخاب بالسين والصاد : الكثير الصياح، والاعوجاج : ضدّ الاستقامة والملة العوجاء : الكفر، والقلب الأغلف : الذي لا يصل إليه شيء ينفعه كأنه في غلاف.


الصفحة التالية
Icon