فإن قيل : لم أجاب عن الأوّل بقوله :﴿إنما علمها عند ربي﴾ وعن الثاني بقوله :﴿إنما علمها عند الله﴾ ؟
أجيب : بأنّ السؤال الأوّل لما كان واقعاً عن وقت قيام الساعة، والثاني كان واقعاً عن مقدار شدّتها ومهابتها عبر عن الجواب فيه بقوله : علم ذلك عند الله ؛ لأنه أعظم أسمائه مهابة وعظمة ثم إنه تعالى ختم هذه الآية بقوله :﴿ولكن أكثر الناس لا يعلمون﴾ أي : لا يعلمون السبب الذي من أجله أخفيت معرفة علم وقت قيامها المغيب عن الخلق، وقيل : لا يعلمون أنّ علمها عند الله وإنه استأثر بعلم ذلك حتى لا يسألوا عنه.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦١٦
وروي أنّ أهل مكة قالوا : يا محمد ألا تخبرنا بالسعر الرخيصة قبل أن يغلو فنشتريه ونربح فيه عند الغلاء، وبالأرض التي تريد أن تجدب فنرحل عنها إلى ما قد أخصبت، فأنزل الله تعالى :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦١٦
٦٢٢
لهم ﴿لا أملك لنفسي نفعاً﴾ اجتلاب نفع بأن أربح فيما أشتريه ﴿ولا ضرّاً﴾ أي : ولا أقدر أدفع عن نفسي ضرّاً نزل بها بأن أرتحل إلى الأرض الخصبة أو من الأرض الجدبة ﴿إلا ما شاء الله﴾ من ذلك فيلهمني إياه ويوفقني له.
وقيل : إنه ﷺ لما رجع من غزوة بني المصطلق عصفت ريح في الطريق ففرّت الدواب منها فأخبر النبيّ ﷺ بموت رفاعة بالمدينة، وكان فيها غيظ للمنافقين وقال ﷺ "انظروا أين ناقتي" فقال عبد الله بن أبيّ المنافق مع قومه : ألا تعجبون من هذا الرجل يخبر عن موت الرجل بالمدينة ولم يعرف أين ناقته ؟
فقال ﷺ إنّ ناساً من المنافقين قالوا : كيت وكيت، وناقتي في هذا الشعب قد تعلق زمامها بشجرة فوجدوها على ما قال ﷺ فأنزل الله تعالى هذه الآية ﴿ولو كنت﴾ أي : من ذاتي ﴿أعلم الغيب﴾ أي : جنسه ﴿لاستكثرت﴾ أي : أوجدت لنفسي كثيراً ﴿من الخير وما مسني السوء﴾ أي : ولو كنت أعلمه لخالفت حالي ما هي عليه من استكثار المنافع، ويدخل فيه ما يتصل بالخصب واجتناب المضارّ حتى لا يمسني سوء ﴿إن﴾ أي : ما ﴿أنا إلا نذير﴾ بالنار للكافرين ﴿وبشير﴾ بالجنة ﴿لقوم يؤمنون﴾ أي : يصدّقون، وقيل : لقوم يؤمنون متعلق بنذير وبشير ؛ لأنهم المنتفعون بهما ﴿هو الذي خلقكم﴾ أي : ولم تكونوا شيئاً ﴿من نفس واحدة﴾ أي : خلقها ابتداء من تراب، وهي آدم عليه السلام ﴿وجعل منها﴾ أي : من جسدها من ضلع من أضلاعها، وقيل : من جنسها لقوله تعالى :﴿جعل لكم من أنفسكم أزواجاً﴾ (الشورى، ١١)
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٢٢
زوجها﴾ أي : حوّاء، قالوا : والحكمة في كونها خلقت منه أنّ الجنس إلى الجنس أميل والجنسية علة الضمّ ﴿ليسكن إليها﴾ أي : ليأنس بها ويطمئن إليها إطمئنان الشيء إلى جزئه أو جنسه، وإنما ذكر الضمير في يسكن بعد أن أنث في قوله تعالى :﴿من نفس واحدة﴾ ذهاباً إلى معنى النفس ليناسب تذكير الضمير في قوله تعالى :﴿فلما تغشاها﴾ أي : جامعها، ولئلا يوهم لو أنثه نسبة السكون إلى الأنثى، والأمر بخلافه إزالة لاستيحاشه، فكانت نسبة المؤانسة إليه أولى ﴿حملت حملاً خفيفاً﴾ أي : خف عليها ولم تلق منه ما يلقى الحوامل غالباً من الأذى، أو محمولاً خفيفاً وهو النطفة ﴿فمرّت به﴾ أي : فعالجت به أعمالها وقامت وقعدت ولم يعقها عن شيء من ذلك لخفته ﴿فلما أثقلت﴾ أي : صارت ذا ثقل بكبر الولد في بطنها ﴿دعوا الله﴾ أي : آدم وحوّاء عليهما السلام ﴿ربهما﴾ مقسمين ﴿لئن آتيتنا صالحاً﴾ أي : ولداً سوياً لا عيب فيه ﴿لنكونن من الشاكرين﴾ أي : نحن وأولادنا على نعمتك علينا، وذلك أنهما جوّزا أن يكون غير سوي لقدرة الله تعالى على كل ما يريد لأنه الفاعل المختار.
فائدة : اتفق القراء على إدغام تاء التأنيث الساكنة في الدال.
﴿فلما آتاهما صالحاً﴾ أي : جنس الولد الصالح في تمام الخلق بدناً وقوّة وعقلاً، فكثروا في الأرض وانتشروا في نواحيها ذكوراً وإناثاً ﴿جعلا﴾ أي : النوعان من أولادهما الذكور والإناث ؛ لأنّ صالحاً صفة للولد وهو الجنس، فيشمل الذكر والأنثى والقليل والكثير، فكأنه قيل : فلما آتاهما أولاداً صالحي الخلقة من الذكور والإناث جعل النوعان ﴿له شركاء﴾ أي : بعضهم أصناماً وبعضهم ناراً وبعضهم شمساً وبعضهم غير ذلك، وقيل : جعل أولادهما له شركاء ﴿فيما آتاهما﴾ أي : فيما آتى أولادهما فسموه عبد العزى وعبد مناف على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، ويدل عليه قوله تعالى :﴿فتعالى الله عما يشركون﴾.
٦٢٣
﴿أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون﴾ أي : الأصنام.
فإن قيل : كيف وحد ﴿يخلق﴾، ثم جمع فقال :﴿وهم يخلقون﴾ ؟
أجيب : بأنّ لفظ ما يقع على الواحد والاثنين والجمع، فوحد بحسب ظاهر اللفظ، وجمع باعتبار المعنى.