فإن قيل : كيف جمع الواو والنون لمن لا يعقل وهو جمع من يعقل من الناس ؟
أجيب : بأنه لما اعتقد عابدوا الأصنام أنها تعقل وتميز ورد هذا الجمع على ما يعتقدونه، وقيل : لما حملت حوّاء أتاها إبليس في صورة رجل فقال لها : ما يدريك ما في بطنك ؟
ولعله بهيمة أو كلب وما يدريك من أين يخرج ؟
فخافت من ذلك وذكرت لآدم فهُمّا منه، وهو بضمّ الهاء وتشديد الميم من الهم وهو هنا الحزن، ثم عاد إليها وقال : إني من الله بمنزلة فإن دعوت الله على أن يجعله خلقاً مثلك، ويسهل عليك خروجه فسميه عبد الحرث، وكان اسم إبليس حارثاً في الملائكة، ففعلت ولما ولدته سمته عبد الحرث.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٢٢
فإن قيل : قد قال البيضاويّ : وأمثال ذلك لا تليق بالأنبياء، ويحتمل أن يكون الخطاب في خلقكم لآل قصيّ من قريش، فإنهم خلقوا من نفس قصيّ وكان له زوج من جنسها عربية قرشية فطلبا من الله تعالى الولد فأعطاهما أربعة بنين فسمياهم عبد شمس وعبد مناف وعبد قصيّ وعبد الدار، ويكون الضمير في يشركون لهما ولأعقابهما المقتدين بهما اه أجيب : بأنه نظر في ذلك إلى الظاهر وإلا فقد روي أنه ﷺ قال :"لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال : سميه عبد الحرث فإنه يعيش، فسمته فعاش فكان ذلك من وحي الشيطان وأمره" رواه الحاكم وقال : صحيح، والترمذيّ وقال حسن غريب.
وروي عن ابن عباس أنه قال : كانت حواء تلد لآدم فتسميه : عبد الله وعبيد الله وعبد الرحمن فيصيبهم الموت، فأتاهما إبليس فقال : إن سركما أن يعيش لكما ولد فسمياه عبد الحرث، فسمياه فعاش، وجاء في حديث "خدعهما إبليس مرتين : مرّة في الجنة ومرّة في الأرض"، وهو قول كثير كمجاهد وسعيد بن المسيب وهذا كما قال البغويّ : ليس إشراكاً في العبادة، ولا أنّ الحرث ربهما فإنّ آدم كان نبياً معصوماً من الشرك ولكن قصد إلى أنّ الحرث كان سبب نجاة الولد وسلامة أمّه، وقد يطلق اسم العبد على من لا يراد به إنه مملوك كما يطلق اسم الرب على من لا يراد به أنه معبود هذا كالرجل إذا نزل به ضيف يسمي نفسه عبد الضيف على وجه الخضوع لا على وجه أنّ الضيف يملكه قال الشاعر :
*وإني لعبد الضيف ما دام ثاوياً ** ولا شيمة لي بعدها تشبه العبدا*
وتقول للغير : أنا عبدك، قال الرازي : ورأيت بعض الأفاضل كتب على عنوان عبد ودود فلان، وقال يوسف عليه السلام لعزيز مصر :﴿إنه ربي﴾ (يوسف، ٢٣)
ولم يرد به معبوده كذلك هذا فقوله تعالى :﴿فتعالى الله عما يشركون﴾ ابتداء كلام، وأريد به إشراك أهل مكة، وقرأ نافع وشعبة :"شركاً" بكسر الشين وسكون الراء وألف منونة بعد الكاف في الوصل وفي الوقف بغير تنوين أي : شركة، والباقون بضمّ الشين وفتح الراء وبعد الكاف ألف بعدها همزة مفتوحة.
٦٢٤
فإن قيل : المطاع إبليس فكيف يعير بالجمع ؟
أجيب : بأنّ من أطاع إبليس فقد أطاع جميع الشياطين، هذا إن حملت هذه الآية على القصة المشهورة، أمّا إذا لم نقل به فلا حاجة إلى التأويل.
﴿ولا يستطيعون﴾ أي : الأصنام ﴿لهم﴾ أي : لعابديهم ﴿نصراً﴾ أي : لا تقدر على النصر لمن أطاعها أو عبدها، ولا تضر من عصاها، والمعبود الذي تجب عبادته يكون قادراً على إيصال النفع والضر، وهذه الأصنام ليست كذلك، فكيف يليق بالعاقل أن يعبدها ؟
﴿ولا أنفسهم ينصرون﴾ أي : وهي لا تقدر أن تدفع عن نفسها مكروهاً، فإنّ من أراد كسرها قدر عليه، وهي لا تقدر على دفعه عنها. والاستفهام للتوبيخ.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٢٢
ثم خاطب المؤمنين بقوله تعالى :﴿وإن تدعوهم﴾ أي : المشركين ﴿إلى الهدى﴾ أي : إلى الإسلام ﴿لا يتبعوكم﴾ أي : لأنّ الله تعالى حكم عليهم بالضلالة فلا يقبلوا الهداية، وقرأ نافع بسكون التاء وفتح الباء الموحدة، والباقون بفتح التاء مشدّدة وكسر الباء الموحدة ﴿سواء عليكم أدعوتموهم﴾ إلى الهدى ﴿أم أنتم صامتون﴾ أي : ساكتون عن دعائهم، فهم في كلا الحالتين لا يؤمنون.
وقيل : الضمير في تدعوهم للأصنام أي : إنّ هذه الأصنام التي يعبدها المشركون معلوم من حالها أنها لا تضرّ ولا تنفع ولا تسمع من دعاها إلى خير وهدى، وذلك أنّ المشركين كانوا إذا وقعوا في شدّة وبلاء تضرّعوا إلى أصنامهم، وإذا لم يكن لهم إلى الأصنام حاجة سكتوا فقيل لهم : لا فرق بين دعائكم إلى الأصنام وسكوتكم عنها، فإنها عاجزة في كل حال.
﴿إنّ الذين تدعون﴾ أي : تعبدون ﴿من دون الله عباد﴾ أي : مملوكة ﴿أمثالكم﴾ فهي لا تملك ضرّاً ولا نفعاً.


الصفحة التالية
Icon