قالوا لولا اجتبيتها} أي : هلا تقولتها من عند نفسك كسائر ما تقرؤه، فإنهم كانوا يقولون : إنّ هذا الإفك مفترى، تقول العرب : اجتبيت الكلام اختلقته وافتعلته وأنشأته من عندك، وهلا طلبتها من ربك منزلة عليك مقترحة ؟
قال الله تعالى :﴿قل﴾ : يا محمد لهؤلاء المشركين الذين سألوا الآيات ﴿إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي﴾ أي : ليس لي أن أقترح على ربي في أمر من الأمور إنما أنتظر الوحي، فكل شيء أكرمني به قلته، وإلا فالواجب السكوت وترك الاقتراح.
ثم بيّن أن عدم الإتيان بتلك المعجزات التي اقترحوها لا يقدح في الغرض ؛ لأن ظهور القرآن على وفق دعواه معجزة بالغة باهرة، فإذا ظهرت هذه المعجزة الواحدة كانت كافية في تصحيح النبوة، فكان طلب الزيادة من باب التعنت، فذكر في وصف القرآن ألفاظاً ثلاثة أوّلها قوله :﴿هذا بصائر من ربكم﴾ أي : هذا القرآن فيه حجة وبرهان، وأصل البصائر الأبصار وهو ظهور الشيء حتى يبصره الإنسان، ولما كان القرآن سبباً لبصائر العقول في دلائل التوحيد والنبوّة والمعاد أطلق عليه لفظ البصيرة فهو من باب تسمية السبب باسم المسبب.
وثانيها :﴿وهدى﴾ أي : وهو هدى.
وثالثها :﴿ورحمة﴾ أي : وهو رحمة ﴿لقوم يؤمنون﴾.
فإن قيل : ما الفرق بين هذه المراتب الثلاث ؟
أجيب : بأنهم متفاوتون في درجات العلوم، فمنهم من بلغ الغاية في علم التوحيد حتى صار كالمشاهد، وهم أصحاب عين اليقين، ومنهم من بلغ درجة الاستدلال والنظر، وهم أصحاب علم اليقين، ومنهم المسلم المستسلم وهم عامة المؤمنين، وهم أصحاب حق اليقين، فالقرآن في حق القسم الأوّل، وهم السابقون بصائر، وفي حق القسم الثاني وهم المستدلون هدى، وفي حق القسم الثالث وهم عامة المؤمنين رحمة.
﴿وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا﴾ أي : عن الكلام ﴿لعلكم ترحمون﴾ أي : لكي يرحمكم ربكم باتباعكم ما أمرتم به من أوامره، واختلفوا في سبب نزول هذه الآية فذهب قوم إلى
٦٢٨
أنها نزلت في الصلاة كانوا يتكلمون فيها فأمروا باستماع قراءة الإمام والإنصات.
وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة بحوائجهم فأمروا بالسكوت والاستماع إلى قراءة القرآن، وقال قوم : نزلت في ترك الجهر بالقراءة خلف الإمام.
وروى زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي هريرة قال : نزلت هذه الآية في رفع الأصعات وهم خلف رسول الله ﷺ في الصلاة، وقال الكلبي : كانوا يرفعون أصواتهم في الصلاة حين يسمعون ذكر الجنة والنار، وعن ابن مسعود أنه سمع ناساً يقرؤون مع الإمام فلما انصرفوا قال : أما آن لكم أن تفقهوا وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا كما أمركم الله، وهو قول الحسن والزهري : إن الآية نزلت في القرآن في الصلاة.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٢٦
وقال سعيد بن جبير وعطاء ومجاهد إنّ الآية نزلت في الخطبة أمروا بالإنصات لخطبة الإمام يوم الجمعة، وقال عمر بن عبد العزيز : الإنصات لكل واعظ، وقيل : معناه وإذا تلا عليكم الرسول القرآن عند نزوله فاستمعوا له وأنصتوا، وقيل : معنى فاستمعوا له فاعملوا بما فيه ولا تجاوزوه، قال البغوي : والأوّل أولاها وهو أنها في القراءة في الصلاة لأنّ الآية مكية والجمعة وجبت بالمدينة، قال البيضاوي : وظاهر اللفظ يقتضي وجوبهما حيث يقرأ القرآن مطلقاً وعامة العلماء على استحبابهما خارج الصلاة واحتج به من لا يرى وجوب القراءة على المأموم وهو ضعيف، اه. أي : مردود بخبر الصحيحين :"لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب" وقوله تعالى :
﴿واذكر ربك في نفسك﴾ عام في الأذكار من القراءة والدعاء وغيرهما، والمراد بالذكر في النفس أن يستحضر في قلبه عظمة الله تعالى جل جلاله ؛ لأنّ الذكر باللسان إذا كان عارياً عن ذكر القلب كان عديم الفائدة ؛ لأنّ فائدة الذكر حضور القلب وإشعاره عظمة المذكور تعالى، قال الرازي : سمعت بعض الأكابر من أصحاب القلوب كان إذا أراد أن يأمر واحداً من المريدين بالخلوة والذكر أمره أربعين يوماً بالخلوة والتصفية، ثم عند استكمال هذه المدّة وحصول التصفية الكاملة يقرأ عليه الأسماء التسعة والتسعين، ويقول للمريد : اعتبر حال قلبك عند سماع هذه الأسماء، فكل اسم وجدت قلبك عند سماعه قوي تأثره وعظم تشوّقه، فاعلم أنّ الله تعالى إنما يفتح أبواب المكاشفات عليك بواسطة المواظبة على ذكر ذلك الاسم بعينه، وهذا طريق حسن لطيف في هذا الباب، اه.
وقيل : ذلك أمر للمأموم بالقراءة سراً بعد فراغ الإمام من قراءة الفاتحة كما هو مذهب الشافعي رحمه الله تعالى ﴿تضرعاً﴾ أي : تذللاً ﴿وخيفة﴾ أي : خوفاً منه.


الصفحة التالية
Icon