يصرخ ببطن الوادي واقفاً على بعيره، وقد حوّل رحله وشق قميصه، وهو يقول : يا معشر قريش هذه أموالكم مع أبي سفيان، وقد عرض لها محمد وأصحابه، فنادى أبو جهل فوق الكعبة يا أهل مكة النجاء النجاء، وهو بالمدّ : الإسراع منصوب على الإغراء أي : الزموا الإسراع على كل صعب وذلول أي : أسرعوا مجتمعين ولا تقفنّ لأن تختاروا للركوب ذلولاً دون صعب عيركم أموالكم إن أصابها محمد لن تفلحوا بعدها أبداً، فخرج أبو جهل بجميع أهل مكة وهم النفير في المثل لا في العير ولا في النفير فقيل له : إن العير أخذت طريق الساحل ونجت فارجع بالناس، فقال : والله لا يكون ذلك أبداً حتى ننحر الجزور ونشرب الخمور ونقيم القينات والمعازف ببدر فيتسامع جميع العرب بمخرجنا وأن محمداً لم يصب العير فإنا قد أعضضناه فمضى بهم إلى بدر، وبدر ماء كانت العرب تجتمع فيه لسوقهم يوماً في السنة، ونزل جبريل عليه السلام وقال : يا محمد إنّ الله وعدكم إحدى الطائفتين إمّا العير وإمّا قريشاً، فاستشار النبيّ ﷺ أصحابه، وقال : ما تقولون ؟
إنّ القوم قد خرجوا من مكة على كل صعب وذلول، فالعير أحبّ إليكم أم النفير ؟
قالوا : بل العير أحب إلينا من لقاء العدوّ، فتغير وجه رسول الله ﷺ ثم ردّد عليهم، وقال : إنّ العير قد مضت على ساحل البحر، وهذا أبو جهل قد أقبل، فقالوا : يا رسول الله عليك بالعير ودع العدّو فقام عند غضب رسول الله ﷺ أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فأحسنا الكلام وأمالاه إلى المضيّ إلى العدوّ، ثم قام سعد بن عبادة، فقال : انظر أمرك فاقض فوالله لو سرت إلى عدن أبين، وهي مدينة معروفة باليمن، وأبين بوزن أبيض اسم رجل من حمير عدن بها أي : أقام، ما تخلف عنك رجل من الأنصار.
ثم قال المقداد بن عمرو : يا رسول الله امض لما أمرك الله فإنا معك حيثما أحببت لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فتبسم رسول الله ﷺ ثم قال :"أشيروا عليّ أيها الناس" وهو يريد الأنصار ؛ لأنهم قالوا له حين بايعوه على العقبة : إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلى ديارنا فأنت في ذمامنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا، فكان النبيّ ﷺ يتخوّف أن تكون الأنصار لا ترى عليهم نصرته إلا على عدوّ دهمه بالمدينة فقام سعد بن معاذ فقال : لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟
قال :"أجل"، قال : قد آمنا بك وصدّقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فوالله الذي بعثك بالحق نبياً لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقي بنا عدوّنا وإنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء، ولعلّ الله تعالى يريك منا ما تقرّ به عينك، فسر بنا على بركة الله، ففرح رسول الله ﷺ وبسطه قول سعد رضي الله عنه، قال : سيروا على بركة الله تعالى وأبشروا، فإنّ الله وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٣٢
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حدّثه عن أهل بدر قال : إنّ رسول الله ﷺ كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس يقول :"هذا مصرع فلان غداً إن شاء الله تعالى، وهذا مصرع فلان غداً إن شاء الله تعالى" قال عمر فوالذي بعثه بالحق نبياً ما أخطأ الحدود التي حدّها رسول الله ﷺ قال : فجعلوا في بئر بعضهم على بعض فانطلق رسول الله ﷺ حتى انتهى إليهم فقال :"يا فلان بن فلان هل وجدتم ما وعد الله ورسوله حقاً فإني وجدت ما وعدني الله حقاً" فقال عمر : كيف تكلم أجساداً لا أرواح فيها، فقال :"ما أنتم أسمع لما أقول لهم منهم غير أنهم لا
٦٣٨
يستطيعون أن يردوا عليّ شيئاً".
وروي أنه قيل لرسول الله ﷺ حين فرغ من بدر : عليك بالعير ليس دونها شيء، فناداه العباس وهو في وثاقه أي : قيده وكان العباس حينئذ مأسوراً مقيداً لا يصلح، فقال له النبيّ ﷺ لم ؟
قال : لأنّ الله وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك فكانت الكراهة من بعضهم لقوله تعالى :﴿وإنّ فريقاً من المؤمنين لكارهون﴾.
﴿يجادلونك في الحق﴾ أي : القتال ﴿بعدما تبين﴾ إنك لا تصنع شيئاً إلا بأمر ربك ﴿كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون﴾ إليه أي : يكرهون القتال كراهة من يساق إلى الموت وهو يشاهد أسبابه وذلك أنّ المؤمنين لما أيقنوا بالقتال كرهوا ذلك، وقالوا : لم يعلمنا أنا نلقى العدوّ فنستعد للقائهم، وإنما خرجنا لطلب العير، إذ روي أنهم كانوا رجالة وما كان فيهم إلا فارسان، وفيه إيماء إلى أنّ مجادلتهم كانت لفرط فزعهم ورعبهم.