﴿وإذ﴾ أي : واذكر إذ ﴿يعدكم الله إحدى الطائفتين﴾ أي : العير أو النفير، وإحدى ثاني مفعولي "يعدكم" وقد أبدل منها ﴿أنها لكم﴾ بدل اشتمال ﴿وتودّون﴾ أي : تريدون ﴿أن غير ذات الشوكة﴾ أي : القوة والشدة والسلاح وهي العير ﴿تكون لكم﴾ لقلة عددها وعددها إذ لم يكن فيها إلا أربعون فارساً بخلاف النفير لكثرة عددهم وعددهم.
وقرأ أبو عمرو بادغام التاء في التاء بخلاف عنه ﴿ويريد الله أن يحق الحق﴾ أي : يظهره ﴿بكلماته﴾ أي : بآياته المنزلة في محاربة ذات الشوكة وبما أمر الملائكة من نزولهم للنصرة، وبما قضى من أسرهم وقتلهم وطرحهم في قليب بدر ﴿ويقطع دابر الكافرين﴾ أي : يستأصلهم، والمعنى أنكم تريدون أن تصيبوا مالاً، ولا تلقوا مكروهاً والله يريد إعلاء الدين وإظهار الحق، وما يحصل لكم من فوز الدارين ﴿ليحق الحق﴾ أي : يثبت الإسلام ﴿ويبطل الباطل﴾ أي : يمحق الكفر ﴿ولو كره المجرمون﴾ أي : المشركون ذلك.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٣٢
فإن قيل : قوله تعالى :﴿ليحق الحق﴾ بعد قوله :﴿أن يحق الحق﴾ يشبه التكرار أجيب : بأنّ المعنيين متباينان وذلك أنّ الأوّل لبيان المراد وما بينه وبين مرادهم من التفاوت، والثاني لبيان الداعي إلى حمل الرسول على اختيار ذات الشوكة على غيرها ونصره عليها.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٣٢
﴿إذ﴾ أي : واذكر إذ ﴿تستغيثون ربكم﴾ واستغاثتهم أنهم لما عملوا أن لا محيص عن القتال أخذوا يقولون ربنا انصرنا على عدوّك أغثنا يا غياث المستغيثين.
وعن عمر رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام نظر إلى المشركين وهم ألف وإلى أصحابه وهم ثلاثمئة أي وبضعة عشر، فاستقبل القبلة ومد يديه يدعو اللّهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض، فما زال كذلك حتى سقط رداؤه، وأخذه أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فألقاه على منكبه والتزمه من ورائه، وقال : يا نبيّ الله كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك.
وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار ذال إذ عند التاء، والباقون بالإدغام، ﴿فاستجاب لكم أني﴾ أي : بأني فحذف الجارّ وسلط عليه استجاب فنصب محله ﴿ممدّكم بألف
٦٣٩
من الملائكة مردفين﴾ أي : متتابعين يردف بعضهم بعضاً، وقرأ نافع بفتح الدال، وقيل : بالفتح والكسر، والباقون بالكسر، وعدهم بالألف أوّلاً، ثم صارت ثلاثة آلاف، ثم خمسة آلاف كما في آل عمران، فقيل : نزل جبريل عليه السلام في خمسمائة ملك على الميمنة، وفيها أبو بكر رضي الله تعالى عنه، وميكائيل عليه السلام على الميسرة، وفيها عليّ رضي الله تعالى عنه في صور الرجال عليهم عمائم بيض وثياب بيض قد أرخوا أذنابها بين أكتافهم، فقاتلوا يوم بدر ولم يقاتلوا يوم الأحزاب ويوم حنين.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٣٩
وروي أنّ أبا جهل قال لابن مسعود من أين كان ذلك الصوت الذي كنا نسمع ولا نرى شخصاً ؟
قال : من الملائكة، فقال أبو جهل : هم غلبونا لا أنتم.
وروي أنّ رجلاً من المسلمين بينما هو يشتدّ في طلب رجل من المشركين إذ سمع صوت ضربة بالسوط فوقه، فنظر إلى المشرك وقد خرّ مستلقياً وشق وجهه، فحدّث الأنصاري رسول الله ﷺ فقال :"صدقت ذاك من مدد السماء الثالثة، فقتلوا يوم بدر سبعين وأسروا سبعين"، وعن أبي داود المازنيّ تبعت رجلاً من المشركين لأضربه يوم بدر فوقع رأسه بين يدي قبل أن يصل إليه سيفي.
وروى أبو أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال :"قال لقد رأيتنا يوم بدر وإن أحدنا ليشير بسيفه إلى المشرك فتقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف".
وقيل : إنهم لم يقاتلوا وإنما كانوا يكثرون السواد ويثبتون المؤمنين وإلا فملك واحد كاف في إهلاك أهل الدنيا كلهم، فإنّ جبريل عليه السلام أهلك بريشة من جناحه مدائن قوم لوط، وأهلك بلاد ثمود قوم صالح عليه السلام بصيحة واحدة، وقيل : يدلّ على هذا قوله تعالى :
﴿وما جعله الله إلا بشرى﴾ لكم أي : وما جعل الإرداف بالملائكة إلا بشرى لكم ﴿ولتطمئن به قلوبكم﴾ فيزول ما بها من الوجل لقلتكم وذلتكم، والصحيح أنهم قاتلوا يوم بدر، ولم يقاتلوا فيما سواه لما تقدّم ﴿وما النصر إلا من عند الله﴾ أي : لا من عند غيره، وأما إمداد الملائكة وكثرة العدد والأهب ونحوها فهي وسايط لا تأثير لها، فلا تحسبوا أن النصر منها ولا تيأسوا منه بفقدها، وفي ذلك تنبيه على أنّ الواجب على المسلم أن لا يتوكل إلا على الله تعالى في جميع أحواله، ولا يثق بغيره، فإنّ الله تعالى بيده النصر والإعانة. ﴿إنّ الله عزيز﴾ أي : إنه تعالى قويّ منيع لا يقهره شيء ولا يغلبه غالب بل هو يقهر كلّ شيء ويغلبه ﴿حكيم﴾ في تدبيره ونصره ينصر من يشاء ويخذل من يشاء من عباده.