﴿إذ﴾ أي : واذكر إذ ﴿يغشاكم النعاس﴾ وهو النوم الخفيف ﴿أمنة﴾ أي : أمناً مما حصل لكم من الخوف من عدوّكم ﴿منه﴾ أي : من الله تعالى ؛ لأنهم لما خافوا على أنفسهم لكثرة عددهم وعددهم وقلة المسلمين وقلة عددهم، وعطشوا عطشاً شديداً ألقى الله عليهم النوم حتى حصلت لهم الراحة وزال عنهم الكلال والعطش، وتمكنوا من قتال عدوّهم كان ذلك النوم نعمة في حقهم ؛ لأنه كان خفيفاً بحيث لو قصدهم العدوّ لعرفوا وصوله إليهم وقدروا على دفعه عنهم.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٣٩
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : النعاس في القتال أمنة من الله تعالى، وفي الصلاة
٦٤٠
وسوسة من الشيطان، وقرأ نافع بضم الياء وكسر الشين مخففة وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والشين مع التخفيف فيهما، والباقون بضم الياء وكسر الشين مشدّدة، ورفع السين من النعاس ابن كثير وأبو عمرو ونصبها الباقون على أن الله تعالى هو الفاعل ﴿وينزل عليكم من السماء ماء﴾ أي : مطراً ﴿ليطهركم به﴾ أي : من الأحداث والجنابات، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون وتخفيف الزاي، والباقون بفتح النون وتشديد الزاي، وذلك أنّ المسلمين نزلوا يوم بدر على كثيب رمل أعفر تسوخ فيه الأقدام وحوافر الدواب، فناموا فاحتلم أكثرهم، وكان المشركون قد سبقوهم على ماء بدر، فنزلوا عليه وأصبح المسلمون على غير ماء وبعضهم محدث وبعضهم جنب وأصابهم العطش، فوسوس إليهم الشيطان، أو قال لهم المنافقون : تزعمون أنكم على الحق وفيكم نبيّ الله ﷺ وأنتم أولياء الله وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم تصلون محدثين، فكيف ترجون أن تظهروا على عدوّكم وما ينتظرون بكم إلا أن يجهدكم العطش فإذا قطع العش أعناقكم مشوا إليكم فقتلوا من أحبوا وساقوا بقيتكم إلى مكة ؟
فحزنوا حزناً شديداً وأشفقوا، فأنزل الله تعالى مطراً أسال منه الوادي، فشرب منه المؤمنون واغتسلوا وتوضؤوا وسقوا الدواب وملؤوا الأسقية وطفىء الغبار وعظمت النعمة من الله عليهم بذلك، وكان دليلاً على حصول النصر والظفر وزالت عنهم وسوسة الشيطان كما قال تعالى :﴿ويذهب عنكم رجز الشيطان﴾ أي : وسوسة الشيطان التي ألقاها في قلوبكم، وقيل : الجنابة ؛ لأنها من تخييله.
فإن قيل : يلزم على هذا التكرار فإنّ هذا تقدّم في قوله تعالى :﴿ليطهركم به﴾ وأجيب عنه : بأنّ المراد من قوله تعالى :﴿ليطهركم به﴾ حصول الطهارة الشرعية ومن قوله تعالى ﴿ويذهب عنكم رجز الشيطان﴾ أن الرجز هو عين المنيّ، فإنه شيء مستخبث، وطابت أنفسهم كما قال تعالى :﴿وليربط﴾أي : يحبس ﴿على قلوبكم﴾ باليقين والصبر ولبدت الأرض حتى ثبتت عليها الأقدام كما قال تعالى :﴿ويثبت به الأقدام﴾ أي : أن تسوخ في الرمل، والضمير في "به" للماء ويجوز كما قال الزمخشريّ أن يكون للربط ؛ لأنّ القلب إذا تمكن فيه الصبر والجراءة ثبتت الأقدام في مواطن القتال وقوله تعالى :
﴿إذ يوحي ربك﴾ متعلق بيثبت أو بدل من "إذ يعدكم" ﴿إلى الملائكة﴾ أي : الذين أمدّ بهم المسلمين وقوله تعالى :﴿إني﴾ أي بأني﴿معكم﴾ أي : بالعون والنصرة مفعول يوحي ﴿فثبتوا الذين آمنوا﴾ أي : قوّوا قلوبهم بأن تقاتلوا المشركين معهم، وقيل : بالتبشير والإعانة، فكان الملك يمشي في صورة رجل أمام الصف ويقول : أبشروا فإنّ الله تعالى ناصركم عليهم فإنكم تعبدونه وهؤلاء لا يعبدونه، وقيل : بإلقاء الإلهام في قلوبهم كما أنّ للشيطان قوّة في إلقاء الوسوسة في قلب ابن آدم بالشر ويسمى ما يلقيه الشيطان وسوسة وما يلقيه الملك إلهاماً.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٣٩
ثم بين تعالى المعية بقوله تعالى :﴿سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب﴾ أي : الخوف فلا يكون لهم ثبات وكان ذلك نعمة من الله تعالى على المؤمنين حيث ألقى الخوف في قلوب المشركين، وقرأ ابن عامر والكسائي برفع العين، والباقون بالسكون وقوله تعالى :﴿فاضربوا﴾ خطاب للمؤمنين وللملائكة ﴿فوق الأعناق﴾ أي : أعاليها التي هي المذابح والمفاصل والرؤوس، فإنها فوق الأعناق وقيل : المراد الأعناق، وفوق صلة، أو بمعنى على أي : اضربوا على الأعناق ﴿واضربوا منهم كل بنان﴾ قال ابن عطية : يعني : كل مفصل، وقال ابن عباس : يعني : الأطراف، والبنان جمع بنانة وهي أطراف الأصابع من اليدين والرجلين، وقال ابن الأنباري : كانت الملائكة
٦٤١
لا تعلم كيف تقاتل بني آدم فعلمهم الله تعالى : قيل : إنما خصت الرأس والبنان بالذكر ؛ لأنّ الرأس أعلى الجسد وأشرف الأعضاء، والبنان أضعف الأعضاء، فيدخل في ذلك كل عضو في الجسد.
وقيل : أمرهم بضرب الرأس وبه هلاك الإنسان وبضرب البنان وبه تبطل حركته عن القتال ؛ لأنّ بالبنان يتمكن من مسك السيف والسلاح وحمله والضرب به فإذا قطع بنانه تعطل ذلك كله.