﴿ذلك﴾ أي : التسليط العظيم الذي وقع من القتل والأسر يوم بدر، والخطاب للنبيّ ﷺ أو لكل أحد ﴿بأنهم﴾ أي : الذين تلبسوا بالكفر ﴿شاقوا الله﴾ الذي لا يطاق انتقامه ﴿ورسوله﴾ أي : خالفوهما في الأوامر والنواهي والمشاقة المخالفة وأصلها المجانبة كأنهم صاروا في شق وجانب غير الذي يرضيانه ﴿ومن يشاقق الله ورسوله فإنّ الله شديد العقاب﴾ له فإنّ الذي أصابهم في ذلك اليوم من الأسر والقتل شيء قليل في جنب ما أعدّ الله تعالى لهم من العقاب يوم القيامة، وقوله تعالى :
﴿ذلكم﴾ خطاب للكفرة على طريق الالتفات من الغيبة في شاقوا أي : ذلكم الذي عجل لكم ببدر من القتل والأسر ﴿فذوقوه﴾ عاجلاً ﴿وأنّ للكافرين﴾ آجلاً في الآخرة ﴿عذاب النار﴾ ووضع الظاهر فيه موضع المضمر للدلالة على أنّ الكفر سبب للعاجل والآجل.
﴿يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً﴾ أي : مجتمعين كأنهم لكثرتهم يزحفون أي : يدبون دبيباً من زحف الصبي إذا دبّ على استه قليلاً قليلاً سمي به، وجمع على زحوف، وانتصابه على الحال وهو مصدر موصوف به كالعدل والرضا ولذلك لم يجمع ﴿فلا تولوهم الأدبار﴾ أي : منهزمين منهم وإن كنتم أقل منهم.
﴿ومن يولهم يومئذٍ﴾ أي : يوم لقائهم ﴿دبره﴾ أي : يجعل ظهره إليهم منهزماً ﴿إلا متحرفاً﴾ أي : منعطفاً ﴿لقتال﴾ بأن يريهم أنه منهزم خداعاً ثم يكر عليهم وهو باب من مكايد الحرب ﴿أو متحيزاً﴾ منضماً وصائراً ﴿إلى فئة﴾ أي : جماعة أخرى من المسلمين سوى الفئة التي هو فيها على القرب يستنجد بها.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٣٩
ومنهم من لا يعتبر القرب لما روى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان في سرية بعثهم رسول الله ﷺ ففرّوا إلى المدينة فقلت : يا رسول الله نحن الفرارون، فقال :"بل أنتم العكارون" وفي رواية "الكرارون" أي : المتعاطفون إلى الحرب، وأنا فئتكم.
وانهزم رجل من القادسية فأتى المدينة إلى عمر رضي الله تعالى عنه فقال : يا أمير المؤمنين هلكت فررت من الزحف، فقال عمر : أنا فئتك ﴿فقد باء﴾ أي : رجع ﴿بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير﴾ أي : المرجع هي، وعن ابن عباس أنّ الفرار من الزحف من أكبر الكبائر هذا إذا لم يزد العدد على الضعف لقوله تعالى :﴿الآن خفف الله عنكم وعلم أنّ فيكم ضعفاً﴾ (الأنفال، ٦٦)
وقيل : هذا في أهل بدر خاصة ؛ لأنه ما كان يجوز لهم الانهزام يوم بدر ؛ لأنّ النبيّ ﷺ كان معهم قاله مجاهد. ولما انصرف المسلمون من قتال بدر كان الرجل يقول : أنا قتلت فلاناً، ويقول الآخر : أنا قتلت فلاناً، فنزل قوله تعالى :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٣٩
٦٤٢
﴿فلم تقتلوهم﴾ أي : بقوّتكم ﴿ولكنّ الله قتلهم﴾ أى : بنصره إياكم بأن هزمهم لكم.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٤٢
قال البيضاوي تبعاً للزمخشريّ : والفاء جواب شرط محذوف تقديره : إن افتخرتم بقتلهم، فلم تقتلوهم ولكنّ الله قتلهم، اه. ورده ابن هشام بأنّ الجواب المنفي بلم لا تدخل عليه الفاء، واختلف في سبب نزول قوله تعالى :﴿وما رميت﴾ يا محمد ﴿إذ رميت ولكنّ الله رمى﴾ على ثلاثة أقوال : الأوّل وهو قول أكثر المفسرين نزلت في يوم بدر، وذلك أنّ رسول الله ﷺ لما ندب إلى قتال بدر نزلوا بدراً ووردت عليهم روّاد قريش وفيهم أسلم غلام أسود لبني الحجاج وأبو يسار غلام لبني العاصي بن سعد، فأتوا بهما إلى رسول الله ﷺ فقال لهما : أين قريش ؟
فقالا : هم وراء هذا الكثيب الذي بالعدوة القصوى الكثيب العقنقل، وهو الكثيب العظيم المتداخل الرمل، قاله الجوهريّ، فقال لهما رسول الله ﷺ "كم القوم ؟
" قالا : كثير، قال : ما عدّتهم، قالا : لا ندري، قال :"كم ينحرون كل يوم ؟
" قالا : يوماً عشرة ويوماً تسعة، فقال رسول الله ﷺ "القوم ما بين التسعمائة إلى الألف، ثم قال لهما :"فمن فيهم من أشراف قريش ؟
" قالا : عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو البختري بن هشام وأبو جهل بن هشام وعدّا جماعة أخرى، فقال ﷺ "هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها" فلما طلعت قريش من العقنقل قال عليه الصلاة والسلام :"هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك اللهمّ إني أسألك ما وعدتني" فأتاه جبريل عليه السلام، وقال له : خذ قبضة من تراب فارمهم بها، فلما التقى الجمعان قال لعليّ رضي الله عنه :"أعطني قبضة من حصباء الوادي" فرمى بها في وجوههم وقال :"شاهت الوجوه" أي : قبحت، فلم يبق
٦٤٣