﴿واعلموا أنّ الله شديد العقاب﴾ لمن خالفه.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٤٢
﴿واذكروا﴾ يا معاشر المهاجرين ﴿إذ أنتم﴾ في أوائل الإسلام ﴿قليل﴾ أي : عددكم ﴿مستضعفون﴾ أي : لا منعة لكم ﴿في الأرض﴾ أي : أرض مكة، وإطلاقها لأنها لعظمها كأنها هي الأرض كلها، أو لأنّ حالهم كان في بقية البلاد كحالهم فيها أو قريباً من ذلك، ولهذا عبر بالناس في قوله تعالى :﴿تخافون أن يتخطفكم الناس﴾ أي : تأخذكم الكفار بسرعة كما تتخطف الجوارح الصيد ﴿فآواكم﴾ إلى المدينة، أو جعل لكم مأوى تتحصنون فيه على أعدائكم ﴿وأيدكم﴾ أي : قوّاكم ﴿بنصره﴾ أي : بإمداد الملائكة يوم بدر، وبمظاهرة الأنصار ﴿ورزقكم من الطيبات﴾
٦٤٦
أي : الغنائم أحلها لكم، ولم يحلها لأحد قبلكم ﴿لعلكم تشكرون﴾ هذه النعم العظيمة.
﴿يأيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول﴾ أي : بأن تضمروا خلاف ما تظهرون.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٤٦
روي أنه ﷺ حاصر يهود بني قريظة إحدى وعشرين ليلة، فسألوا رسول الله ﷺ الصلح كما صالح إخوانهم بني النضير على أن يسيروا إلى إخوانهم بأذرعات وأريحا من الشام فأبى رسول الله ﷺ أن يعطيهم ذلك إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ، فأبوا وقالوا : أرسل إلينا أبا لبابة واسمه رفاعة، أو مروان بن عبد المنذر وكان مناصحاً لهم ؛ لأنّ ماله وعياله عندهم، فبعثه رسول الله ﷺ إليهم، فقالوا : يا أبا لبابة ما ترى أننزل على حكم سعد بن معاذ ؟
فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه إنه الذبح أي : حكم سعد هو القتل، فلا تفعلوا، فقال أبو لبابة : والله ما زالت قدماي من مكانهما حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله، ثم انطلق على وجهه، ولم يأت رسول الله ﷺ وشدّ نفسه على سارية من سواري المسجد وقال : والله لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى أموت أو يتوب الله عليّ، فلما بلغ رسول الله ﷺ قال : أما لو جاءني لاستغفرت له، وأمّا إذ فعل ما فعل فإني لا أطلقه حتى يتوب الله تعالى عليه، فمكث سبعة أيام لا يذوق طعاماً ولا شراباً حتى خرّ مغشياً عليه، ثم تاب الله عليه، فقيل له : قد تيب عليك فحل نفسك، فقال : لا والله لا أحلها حتى يكون رسول الله ﷺ هو الذي يحلني، فجاءه فحله بيده فقال : إنّ من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالي، فقال له ﷺ "يجزيك الثلث أن تتصدّق به" فنزلت هذه الآية.
وعن المغيرة نزلت في قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، وعن جابر بن عبد الله أنّ أبا سفيان خرج من مكة، فعلم النبيّ ﷺ خروجه وعزم الذهاب إليه، فكتب رجل من المنافقين إليه : إنّ محمداً يريدكم فخذوا حذركم، فنزلت، وقيل : معنى لا تخونوا الله بأن لا تعطلوا فرائضه، ورسوله بأن لا تستنوا به، وأصل الخون النقص كما أنّ أصل الوفاء التمام، واستعماله في ضدّ الأمانة لتضمنه إياه، وقوله تعالى :﴿وتخونوا أماناتكم﴾ أي : ما إئتمنتم عليه من الدين وغيره مجزوم بالعطف على الأوّل أي : ولا تخونوا، أو منصوب بأن مضمرة بعد الواو على جواب النهي أي : لا تجمعوا بين الخيانتين كقوله :
*لا تنه عن خلق وتأتيَ مثله*
٦٤٧
﴿وأنتم تعلمون﴾ أنكم تخونون أي : وأنتم علماء مميزون الحسن من القبيح.
﴿واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة﴾ أي : محنة من الله تعالى ليبلوكم فيهم، فلا يحملنكم حبهم على الخيانة كأبي لبابة ؛ لأنه يشغل القلب بالدنيا ويصيره حجاباً عن خدمة المولى.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٤٦
ثم إنه تعالى نبه بقوله تعالى :﴿وإنّ الله عنده أجر عظيم﴾ على أنّ سعادات الآخرة خير من سعادات الدنيا ؛ لأنها أعظم في الشرف، وأعظم في القوّة، وأعظم في المدّة ؛ لأنها تبقى بقاء لا نهاية له فهذا هو المراد من وصف الله الأجر الذي عنده بالعظم.
قال الرازي : ويمكن أن يتمسك بهذه الآية في بيان أن الاشتغال بالنوافل أفضل من الاشتغال بالنكاح ؛ لأنّ الاشتغال بالنوافل يفيد الأجر العظيم عند الله، والاشتغال بالنكاح يفيد الولد، ويوجب الحاجة إلى المال، وذلك فتنة، ومعلوم أنّ ما يفضي إلى الأجر العظيم عند الله هو خير مما يفضي إلى الفتنة، اه. لكن محله في غير المحتاج إلى النكاح الواجد أهبته، وإلا فالنكاح حينئذٍ أفضل وأولى من التخلي للعبادة.
ولما حذر الله تعالى عن الفتنة بالأموال والأولاد رغب في التقوى التي توجب ترك الميل والهوى في محبة الأموال والأولاد بقوله :


الصفحة التالية
Icon