﴿إذ﴾ أي : واذكر يا محمد نعمة الله عليك إذ ﴿يريكهم الله﴾ أي : المشركين ﴿في منامك﴾ أي : نومك ﴿قليلاً﴾ فأخبرت أصحابك فسروا وقالوا : رؤيا النبيّ ﷺ حق، وصار ذلك سبباً لجرائتهم على عدوّهم وقوّة لقلوبهم.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٥٣
فإن قيل : رؤيا الكثير قليلاً غلط، فكيف يجوز على الله تعالى ؟
أجيب : بأنّ الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ولا يسئل عما يفعل، أو أنه تعالى أراه بعضهم دون بعض، فحكم ﷺ على أولئك الذين رآهم بأنهم قليلون، وقال الحسن : إنّ هذه الإراءة كانت في اليقظة قال : والمراد من المنام العين التي هي موضع النوم ﴿ولو أراكهم كثيراً لفشلتم﴾ أي : ولو أراكم كثيراً لذكرته للقوم ولو سمعوا ذلك لفشلوا أي : جبنوا ﴿ولتنازعتم﴾ أي : اختلفتم ﴿في الأمر﴾ أي : أمر القتال وتفرّقت آراؤكم بين الفرار والقتال ﴿ولكنّ الله سلم﴾ أي : سلمكم من الفشل والتنازع فيما بينكم، وقيل : سلمكم من الهزيمة والقتل ﴿إنه﴾ تعالى ﴿عليم﴾ أي : بالغ العلم ﴿بذات الصدور﴾ أي : بما في القلوب من الجراءة والجبن والجزع وغير ذلك.
﴿وإذ يريكموهم﴾ أي : المؤمنون ﴿إذ التقيتم في أعينكم قليلاً﴾ أي : إنّ الله تعالى قلل عدد المشركين في أعين المؤمنين يوم التقوا في القتال ليتأكد في اليقظة ما رآه النبيّ ﷺ في منامه، وأخبر به أصحابه، وتقوى بذلك قلوب المؤمنين وتزداد جراءتهم ولا يجبنوا عن قتالهم.
قال ابن مسعود : لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى اجنبي : أتراهم سبعين ؟
قال : أراهم مائة، فأسرنا رجلاً منهم فقلنا : كم كنتم ؟
قال : ألفاً، والضميران مفعولا يرى، وقليلاً حال من الثاني ﴿ويقللكم في أعينهم﴾ أي : ويقللكم يا معشر المؤمنين في أعينهم أي : المشركين ؛ لئلا يهربوا وإذا استقلوا عدد المسلمين لم يبالغوا في الاستعداد والتأهب لقتالهم، فيكون ذلك سبباً لظهور المؤمنين.
قال السدّيّ : قال ناس من المشركين : إنّ العير قد انصرفت، فارجعوا، فقال أبو جهل : الآن إذ برز لكم محمد وأصحابه، فلا ترجعوا حتى تستأصلوهم إنما محمد وأصحابه أكلة جزور يعني
٦٥٥
جمع آكل أي : قليل يشبعهم جزور واحد، يضرب مثلاً في القلة والأمر الذي لا يعبأ به، ثم قال : فلا تقتلوهم واربطوهم بالحبال، أراد بقوله ذلك القدرة والقوّة.
فإن قيل : كيف يمكن تقليل الكثير وتكثير القليل ؟
أجيب : بأنّ ذلك ممكن في قدرة الله تعالى، وإنّ الله تعالى على ما يشاء قدير، ويكون ذلك معجزة للنبيّ ﷺ والمعجزة هي من خوارق العادات، فلا ينكر ذلك، أو أنّ الله تعالى يستر عنهم بعضه بساتر، أو يحدث في أعينهم ما يستقلون له الكثير كما أحدث في عيون الحول ما يرون له الواحد اثنين، قيل لبعضهم : إنّ الأحول يرى الواحد اثنين، وكان بين يديه ديك قال : فمالي أرى هذين الديكين أربعة، وهذا قبل : التحام القتال فلما التحم أراهم إياهم مثليهم كما في آل عمران ﴿ليقضي الله أمراً كان مفعولاً﴾ أي : في علمه، وهو إعلاء كلمة الإسلام ونصر أهله.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٥٣
فإن قيل : قد تقدّم ذلك في الآية المتقدّمة، فكان ذكره هنا محض تكرار أجيب : بأنّ المقصود من ذكره في الآية المتقدّمة هو أنه تعالى فعل تلك الأفعال ليحصل استيلاء المؤمنين على الكافرين على وجه يكون معجزة دالة على صدق النبيّ ﷺ والمقصود من ذكره هنا ليس هو ذلك المعنى بل المقصود أنه تعالى ذكر هنا أنه قلل عدد المؤمنين في أعين الكفار، فبين تعالى أنه إنما فعل ذلك ليصير ذلك سبباً ؛ لئلا يبالغ الكفار في تحصيل الاستعداد والحذر فيصير ذلك سبباً لانكسارهم ﴿وإلى الله ترجع الأمور﴾ كلها فلا ينفذ إلا ما يريد إنفاذه فلا تجري الأمور على ما يظنه العباد، وفي هذا تنبيه على أنّ أمور الدنيا غير مقصودة وإنما المراد منها ما يصلح أن يكون زاد اليوم المعاد.
ولما ذكر تعالى أنواع نعمه على النبيّ ﷺ وعلى المؤمنين يوم بدر علمهم إذا التقوا بالفئة وهي الجماعة من المحاربين نوعين من الأدب بقوله تعالى :
﴿يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم﴾ أي : قاتلتم ؛ لأنّ اللقاء سبب للقتال غالباً ﴿فئة﴾ أي : جماعة كافرة ﴿فاثبتوا﴾ لقتالهم كما ثبتم في بدر ولا تحدثوا أنفسكم بفرار هذا هو النوع الأوّل ﴿واذكروا الله كثيراً﴾ بقلوبكم وألسنتكم قال ابن عباس : أمر الله تعالى أولياءه بذكره في أشدّ أحوالهم تنبيهاً على أنّ الإنسان لا يجوز له أن يخلو قلبه ولسانه عن ذكر الله، ولو أنّ رجلاً أقبل من المشرق إلى المغرب على أن ينفق الأموال سخاء والآخر من المغرب إلى المشرق يضرب بسيفه في سبيل الله لكان الذاكر لله أعظم أجراً، وقيل : المراد من هذا الذكر الدعاء بالنصر والظفر ؛ لأنّ ذلك لا يحصل إلا بمعونة الله تعالى ﴿لعلكم تفلحون﴾ أي : تظفرون بمرادكم من النصر والثبوت.


الصفحة التالية
Icon