فإن قيل : هذه الآية توجب الثبات على كل حال وذلك يوهم أنها ناسخة لآية التحرّف والتحيز. أجيب : بأنّ المراد من الثبات الجدّ في المحاربة بل كان الثبات في هذا المقصود لا يحصل إلا بذلك التحرّف والتحيز.
ثم قال تعالى مؤكداً لذلك :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٥٣
٦٥٦
﴿وأطيعوا الله ورسوله﴾ في سائر ما يأمران به ؛ لأنّ الجهاد لا ينفع إلا مع التمسك بسائر الطاعات ﴿ولا تنازعوا﴾ أي : تختلفوا فيما بينكم ﴿فتفشلوا﴾ أي : تجبنوا ﴿وتذهب ريحكم﴾ أي : قوّتكم ودولتكم، والريح مستعارة للدولة شبهها في نفوذ أثرها بالريح، ثم أدخل المشبه في جنس المشبه به ادعاء، وأطلق اسم المشبه به على المشبه، وقيل : المراد بها الحقيقة ؛ لأنه لم يكن قط نصر إلا بريح يبعثها الله تعالى، وفي حديث الشيخين "نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور"، وعن النعمان بن مقرن قال :"شهدت مع رسول الله ﷺ فكان إذا لم يقاتل من أوّل النهار أخر القتال حتى تزول الشمس وتهب الرياح وينزل النصر" أخرجه أبو داود ﴿واصبروا﴾ أي : عند لقاء العدوّ ولا تنهزموا عنه ﴿إنّ الله مع الصابرين﴾ بالنصر والمعونة.
روي أنه ﷺ قال :"أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدوّ واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أنّ الجنة تحت ظلال السيوف" ثم قال ﷺ "اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم".
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٥٦
ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم﴾
أي : ليمنعوا غيرهم ولم يرجعوا بعد نجاتها ﴿بطراً﴾ أي : فخراً وطغياناً في النعمة وذلك إنّ النعم إذا كثرت من الله تعالى على العبد فإن صرفها في المفاخرة على الأقران وكاثر بها أبناء الزمان وأنفقها في غير طاعة الرحمن، فذلك هو البطر في النعمة، وإن صرفها في طاعة الله وابتغاء مرضاته فذلك شكرها ﴿ورئاء الناس﴾ أي : ليثنوا عليهم بالشجاعة والسماحة وذلك أنهم لما بلغوا الجحفة، وأتاهم رسول أبي سفيان أن ارجعوا فقد سلمت عيركم، فقال أبو جهل : لا والله حتى نقدم بدراً، وكان بدر موسماً من مواسم العرب يجتمع
٦٥٧
لهم فيها سوق في كل عام، ونشرب بها الخمور وتعزف علينا القينات، والعزف اللعب بالمعازف، وهي الدفوف وغيرها مما يضرب به قاله ابن الأثير وغيره، والقينات الجواري، ونطعم بها من حضرنا من العرب، فذلك بطرهم ورياؤهم الناس بإطعامهم فوافوها فسقوا المنايا مكان الخمر، وناحت عليهم النوائح مكان القينات، فنهى الله تعالى المؤمنين أن يكونوا أمثالهم بطرين مرائين، وأمرهم أن يكونوا أهل تقوى وإخلاص من حيث إنّ النهي عن الشيء أمر بضدّه ﴿ويصدّون عن سبيل الله﴾ أي : ويمنعون الناس الدخول في دين الله ﴿وا بما يعملون محيط﴾ لا يخفى عليه شيء ؛ لأنه محيط بأعمال العباد كلها فيجازيهم بأعمالهم.
﴿وإذ﴾ أي : واذكروا أيها المؤمنون نعمة الله عليكم إذ ﴿زين لهم﴾ أي : المشركين ﴿الشيطان﴾ أي : إبليس ﴿أعمالهم﴾ الخبيثة بأنّ شجعهم على لقاء المسلمين لما خافوا الخروج من أعدائهم بني بكر بن الحرث جاء إبليس وجند من الشياطين معه راية فتمثل لهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الشاعر الكنانيّ وكان من أشرافهم ﴿وقال﴾ غارّاً لهم في أنفسهم ﴿لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم﴾ أي : مجير لكم من كنانة ﴿فلما تراءت الفئتان﴾ أي : التقى الفريقان رأى إبليس الملائكة قد نزلوا من السماء علم عدوّ الله إبليس أنهم لا طاقة لهم بهم ﴿نكص على عقبيه﴾ قال الضحاك : ولى مدبراً وقال النضر بن شميل : رجع القهقرى على قفاه هارباً ﴿وقال إني بريء منكم﴾ قال الكلبي : لما التقى الجمعان كان إبليس في صف المشركين على صورة سراقة بن مالك، وهو آخذ بيد الحرث بن هشام، فنكص عدوّ الله إبليس على عقبيه، فقال له الحرث : إلى أين أتخذلنا في هذه الحالة ؟
فقال له عدوّ الله إبليس :﴿إني أرى ما لا ترون﴾ ودفع في صدر الحرث، وانطلق فانهزموا قال الحسن : رأى إبليس جبريل بين يدي النبيّ ﷺ وفي يده اللجام يقود الفرس ما ركب، قال قتادة : قال إبليس : إني أرى ما لا ترون وصدق وقال :﴿إني أخاف الله﴾ وكذب والله ما به مخافة الله، ولكن علم أنه لا قوّة له ولا منعة، فأوردهم وأسلمهم، وذلك من عادة عدوّ الله إبليس لعنه الله لمن أطاعه إذا التقى الحق والباطل أسلمهم وتبرأ منهم، وقال عطاء : خاف إبليس أن يهلكه الله تعالى فيمن يهلك، وقيل : أخاف الله عليكم، وقيل : إنه لما رأى جبريل خافه، وقيل : لما رأى الملائكة تنزل من السماء خاف أن يكون الوقت الذي أنظر إليه قد حضر، فقال ما قال إشفاقاً على نفسه.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٥٦


الصفحة التالية
Icon