فجعل الله تعالى نبيه والمؤمنين في أمر الأسرى بالخيار إن شاءوا قتلوهم، وإن شاءوا فادوهم، وإن شاءوا أعتقوهم أي : فهذه الآية نسخت تلك، قال ابن عباس رضي الله عنهما : كانت الغنائم حراماً على الأنبياء والأمم، وكانوا إذا أصابوا مغنماً جعلوه للقربان وكانت تنزل نار من السماء فتأكله فلما كان يوم بدر أسرع المؤمنون وأخذوا الفداء فأنزل الله تعالى.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٦٣
لولا كتاب من الله سبق﴾
أي : لولا قضاء الله سبق في اللوح المحفوظ، بأنه يحمل لكم
٦٦٦
الغنائم ﴿لمسكم﴾ أي : لنالكم ﴿فيما أخذتم﴾ أي : من الفداء ﴿عذاب عظيم﴾ وقال الحسن ومجاهد : لولا كتاب من الله سبق إنه لا يعذب أحداً ممن شهد بدراً مع النبيّ ﷺ قال ابن إسحق : لم يكن من المؤمنين أحد إلا أحب الغنائم، إلا عمر بن الخطاب، فإنه أشار على رسول الله ﷺ بقتل الأسرى، وسعد بن معاذ قال : يا رسول الله كان الإثخان في القتل أحبّ إليّ من استبقاء الرجال فقال رسول الله ﷺ "لو نزل من السماء عذاب ما نجا منه غير عمر بن الخطاب وسعد بن معاذ".
روي : لما نزلت هذه الآية كف رسول الله ﷺ أيديهم أن يأخذوا من الفداء فنزلت :
﴿فكلوا مما غنمتم﴾ أي : من الفداء، فإنه من جملة الغنائم ﴿حلالاً طيباً﴾ فأحل الله الغنائم بهذه الآية لهذه الأمة وقال ﷺ "أحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي".
وروي أنه ﷺ قال :"لم تحل الغنائم لأحد قبلنا، ثم أحل لنا الغنائم ذلك بأنّ الله رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا".
فإن قيل : ما معنى الفاء في قوله تعالى :﴿فكلوا﴾ ؟
أجيب : بأنها سببية والمسبب محذوف تقديره أبحت لكم الغنائم فكلوا، وبنحوه تشبث من زعم أن الأمر الوارد بعد الحظر للإباحة، وحلالاً حال من المغنوم أو صفة للمصدر أي : أكلاً حلالاً، وفائدته إزاحة ما وقع في نفوسهم منه بسبب تلك المعاتبة، ولذلك وصفه بقوله :﴿طيباً﴾. ﴿واتقوا الله﴾ في مخالفته ﴿إنّ الله غفور﴾ غفر ذنوبكم ﴿رحيم﴾ أباح لكم ما أخذتم، وقوله تعالى :﴿واتقوا الله﴾ إشارة إلى المستقبل، وقوله تعالى :﴿إنّ الله غفور رحيم﴾ إشارة إلى الحالة الماضية ولما أخذ رسول الله ﷺ الفداء من الأسارى وثق عليهم أخذ أموالهم منهم ذكر الله تعالى هذه الآية استمالاً لهم، فقال عز من قائل :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٦٣
﴿يأيها النبيّ قل لمن في أيديكم من الأسارى﴾ قرأ أبو عمرو بضم الهمزة وفتح السين بعدها ألف، والباقون بفتح الهمزة وسكون السين ولا ألف بعدها، وأمال الألف بعد الراء أبو عمرو وحمزة والكسائي محضة، وورش بين بين ﴿إن يعلم الله في قلوبكم خيراً﴾ أي : خلوص إيمان وصحة نية ﴿يؤتكم خيراً مما أخذ منكم﴾ من الفداء، قال ابن عباس : نزلت في العباس وعقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحرث كان العباس أسيراً يوم بدر، ومعه عشرون أوقية من الذهب أخرجها ليطعم الناس فكان أحد العشرة الذين ضمنوا الطعام لأهل بدر، فلم تبلغه النوبة حتى أسر، فقال العباس : كنت مسلماً إلا أنهم ألزموني فقال ﷺ "إن يكن ما تذكره حقاً فالله يجزيك وأما ظاهر أمرك فقد كان علينا" قال العباس : وكلمت رسول الله ﷺ أن يترك ذلك الذهب لي فقال :"أما شيء خرجت به تستعين به علينا فلا" قال : فكلفني فداء ابن أخي عقيل بن أبي طالب عشرين أوقية، وفداء نوفل بن الحارث فقال العباس : تركتني يا محمد أتكفف قريشاً، فقال رسول الله ﷺ "فأين ما دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة، وقلت لها ما أدري ما يصيبني، فإن حدث بي ما حدث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل وقثم فقال العباس : وما يدريك يا ابن أخي ؟
قال :"أخبرني به ربي" فقال العباس : أنا أشهد أنك صادق وأشهد أن لا إله إلا الله، وأنك عبده ورسوله
٦٦٧
والله لم يطلع عليه أحد إلا الله ولقد دفعته إليها في سواد الليل ولقد كنت مرتاباً في أمرك فأما إذ أخبرتني بذلك فلا ريب، قال العباس : فأبدلني الله خيراً من ذلك لي الآن عشرون عبداً وإن أدناهم ليضرب في عشرين ألفاً وأعطاني زمزم وما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة، وأنا أنتظر المغفرة من ربي".
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٦٧
وروي أن رسول الله ﷺ قدم عليه مال البحرين ثمانون ألفاً فتوضأ لصلاة الظهر وما صلى حتى فرقه، وأمره العباس أن يأخذ منه فأخذ منه ما قدر على حمله وكان يقول : هذا خير مما أخذ مني وأنا أرجو المغفرة من ربكم يعني الدعوة بقوله تعالى :﴿ويغفر لكم وا غفور رحيم﴾ واختلف المفسرون في أنّ الآية نزلت في العباس خاصة أو في جملة الأسارى قال بعضهم : إنها نزلت في الكل قال الرازي : وهذا أولى ؛ لأنّ ظاهر الآية يقتضي العموم من ستة أوجه :


الصفحة التالية
Icon