﴿براءة﴾ خبر مبتدأ محذوف أي : هذه براءة. وقوله تعالى :﴿من الله ورسوله﴾ من : ابتدائية متصلة بمحذوف تقديره : واصلة من الله ورسوله، ويجوز أن يكون : براءة مبتدأ لتخصيصها بصفتها، والخبر ﴿إلى الذين عاهدتم﴾ أي : أوقعتم العهد بينكم وبينهم ﴿من المشركين﴾ أي : وإن كانت معاهدتكم لهم إنما كانت بإذن من الله ورسوله، فكما فعلتم المعاهدة بإذنهما فافعلوا النقض تبعاً لهما، ودل سياق الكلام وما حواه من بديع النظام أن العهد إنما هو لأجل المؤمنين، وإنما الله تعالى ورسوله ﷺ فغنيان عن ذلك، أمّا الله فبالغنى المطلق، وأما الرسول ﷺ فبالذي اختاره للرسالة ؛ لأنه ما فعل ذلك إلا وهو قادر على نصره بسبب وبغير سبب.
روي أن النبيّ ﷺ لما خرج إلى تبوك كان المنافقون يرجفون الأراجيف، وجعل المشركون ينقضون عهوداً كانت بينهم وبين رسول الله ﷺ فأمر الله تعالى بنقض عهودهم وذلك قوله تعالى :﴿وإمّا تخافنّ من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء﴾ (الأنفال، ٥٨)
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٧٢
الآية ونقض العهد بما يذكر في قوله تعالى ﴿فسيحوا﴾ أي : سيحوا آمنين أيها المشركون ﴿في الأرض أربعة أشهر﴾ لا يتعرّض لكم فيها ولا أمان لكم بعدها، وكان ابتداء هذه الأشهر يوم الحج الأكبر وانقضاؤها إلى عشر من ربيع الآخر، وقال الأزهري : هي شوّال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ؛ لأنها نزلت في شوّال. وقيل : في ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأوّل وعشرين من شهر ربيع الآخر، وكانت حرماً لأنهم أومنوا فيها وحرم قتلهم وقتالهم أو على التغليب ؛ لأنّ ذا الحجة والمحرم منها. قال البغوي : والأوّل هو الأصوب وعليه الأكثرون اه. وقيل : العشر من ذي القعدة إلى عشر من شهر
٦٧٢
ربيع الأوّل ؛ لأنّ الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت للنسيء الذي كان فيهم ثم صار في السنة الثانية من ذي الحجة وكان نزولها في سنة تسع من الهجرة وفتح مكة سنة ثمان، وكان الأمير فيها عتاب بن أسيد، فأمر رسول الله ﷺ أبا بكر رضي الله عنه على موسم الحج سنة تسع ثم أتبعه علياً رضي الله عنه راكب العضباء ناقة رسول الله ﷺ ليقرأها على أهل الموسم، فقيل له : لو بعثت بها إلى أبي بكر، فقال : لا يؤدّي عني إلا رجل مني، فلما دنا علي من أبي بكر سمع أبو بكر الرغاء فوقف، وقال : هذا رغاء ناقة رسول الله ﷺ وأصل العضباء : المشقوقة الأذن، ولم تكن ناقته ﷺ كذلك ولكن كان ذلك علماً عليها، والرغاء بالمدّ : صوت ذوات الخف قاله الجوهري، فلما لحقه قال أمير أو مأمور.
وروي أن أبا بكر رضي الله عنه لما كان ببعض الطريق هبط جبريل، وقال : يا محمد لا يبلغنّ رسالتك إلا رجل منك فأرسل علياً رضي الله عنه فرجع أبو بكر رضي الله عنه وقال : يا رسول الله أشيء نزل، قال : نعم فسر وأنت على الموسم وعلي ينادي بالآي، فلما كان قبل التروية بيوم خطب أبو بكر وحدثهم عن مناسكهم وقام علي يوم النحر عند جمرة العقبة فقال : أيها الناس إني رسول رسول الله ﷺ إليكم، فقالوا : بماذا ؟
فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية، وعن مجاهد ثلاث عشرة، ثم قال : أمرت بأربع آي بأن أخبروا نادى بها أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف به عريان، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده، فقالوا عند ذلك : أبلغ ابن عمك أنا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا، وأنه ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف ثم حج رسول الله ﷺ سنة عشر حجة الوداع.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٧٢
فإن قيل : قد بعث رسول الله ﷺ جماعة لأن يؤدّوا عنه كثيراً ولم يكونوا من عترته، أجيب : بأنّ هذا ليس على العموم بل مخصوص بالعهود ؛ لأنّ العرب عاداتها أن لا يتولى العهد ونقضه على القبيلة إلا رجل من الأقارب، فلو تولاه أبو بكر رضي الله تعالى عنه لجاز أن يقولوا : هذا خلاف ما يعرف فينا من نقض العهود، فربما لم يقبلوا فلم يخف عليهم بتوليته علياً ذلك، ويدل على ذلك أن في بعض الروايات لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي، وقيل : لما خص أبا بكر بتولية الموسم خص علياً بهذا التبليغ تطييباً للقلوب ورعاية للجوانب، وقيل : قرر أبا بكر على الموسم وبعث علياً خليفة لتبليغ هذه الرسالة حتى يصلي خلف أبي بكر ويكون ذلك جارياً مجرى تنبيه على إمامة أبي بكر.
فإن قيل : ما وجه إطباق أكثر العلماء على جواز مقاتلة المشركين في الأشهر الحرم وقد صانها الله تعالى عن ذلك ؟
أجيب : بأنهم قالوا : قد نسخ وجوب الصيانة وأبيح قتال المشركين فيها.
﴿واعلموا أنكم غير معجزي الله﴾ أي : لا تفوتونه وإن أمهلكم ﴿وأنّ الله مخزي الكافرين﴾ أي : مذلهم في الدنيا بالقتل والأسر، وفي الآخرة بالعذاب.