﴿وأذان﴾ أي : إعلام واقع ﴿من الله ورسوله إلى الناس﴾ إذ الأذان في اللغة الإعلام، ومنه
٦٧٣
الأذان للصلاة، فإنه إعلام بوقتها وارتفاعه كارتفاع براءة على الوجهين.
فإن قيل : لم علقت البراءة بالذين عاهدوا من المشركين وعلق الأذان بالناس أجيب : بأنّ البراءة مختصة بالمعاهدين والناكثين منهم، وأما الأذان فعام لجميع الناس من عاهد ومن لم يعاهد، ومن نكث من المعاهدين ومن لم ينكث.
﴿يوم الحج الأكبر﴾ أي : يوم عيد النحر لأنّ فيه معظم أفعاله من طواف ونحر وحلق ورمي يقع فيه، ولأن الإعلام كان فيه. وروي أنه ﷺ وقف يوم النحر بين الجمرات في حجة الوداع فقال : أي يوم هذا ؟
فقالوا : يوم النحر فقال : هذا يوم الحج الأكبر.
وروي أن علياً رضي الله عنه خرج يوم النحر على بغلة بيضاء يريد الجبانة فجاءه رجل فأخذ بلجام دابته وسأله عن يوم الحج الأكبر فقال : يومك هذا فخل سبيلها، وقيل : يوم عرفة لقوله ﷺ "الحج عرفة"، وقيل : أيام منى كلها ؛ لأنّ اليوم قد يطلق ويراد به الحين والزمان كقوله يوم صفين ويوم الجمل ؛ لأنّ الحرب دامت في هذه الأيام ويطلق عليها يوم واحد. وقيل : هو الذي حج فيه رسول الله ﷺ لأنه اجتمع فيه حج المسلمين وعيد اليهود وعيد النصارى وعيد المشركين ولم يجتمع مثل ذلك قبله ولا بعده ووصف الحج بالأكبر ؛ لأنّ العمرة تسمى الحج الأصغر، وإنما قيل لها الأصغر لنقصان أعمالها عن الحج. وقيل : وصف بذلك لموافقته حج النبيّ ﷺ حجة الوداع، وكان ذلك اليوم يوم الجمعة وودّع الناس فيه وخطبهم وعلمهم مناسكهم. وقيل : وصف بذلك لاجتماع أعياد الملل في ذلك اليوم. وقيل : لأنه ظهر فيه عز المسلمين وذل المشركين. وقوله تعالى :﴿إنّ الله بريء من المشركين﴾ أي : من عهودهم فيه حذف تقديره وأذان من الله ورسوله بأنّ الله بريء من المشركين، وإنما حذف الجار لدلالة الكلام عليه. وقوله تعالى :﴿ورسوله﴾ مرفوع على أنه مبتدأ حذف خبره أي : ورسوله.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٧٢
كذلك وحكي أنّ أعرابياً سمع رجلاً يقرأ : ورسوله بالجرّ، فقال : إن كان الله بريء من رسوله فأنا منه بريء فلببه الرجل إلى عمر رضي الله عنه، فحكى الأعرابيّ الواقعة فحينئذٍ أمر عمر بتعليم العربية.
وحكي أيضاً أنّ أعرابياً قدم في زمن عمر، فقال : من يقرئني مما أنزل الله تعالى على محمد ﷺ فأقرأه رجل براءة، فقال :﴿إنّ الله بريء من المشركين ورسول﴾ه بالجرّ، فقال الأعرابيّ : أوقد برىء الله من رسوله إن يكن الله بريء من رسوله فأنا بريء منه، فبلغ عمر رضي الله تعالى عنه مقالة الأعرابيّ فدعاه فسأله فأخبره الأعرابيّ بذلك، فقال عمر : ليس هكذا يا أعرابيّ فقال : فكيف هي يا أمير المؤمنين ؟
فقال :﴿إنّ الله بريء من المشركين ورسوله﴾ بالرفع، فقال : وأنا والله أبرأ مما برىء الله ورسوله منه، فأمر عمر أن لا يقرأ القرآن إلا عالم باللغة، وأمر أبا الأسود الدؤلي فوضع النحو. ﴿فإن تبتم﴾ أي : عن الكفر والغدر ﴿فهو﴾ أي : ذلك الأمر العظيم وهو المتاب ﴿خير لكم﴾ أي : من الإقامة على الشرك، وهذا ترغيب من الله في التوبة والإقلاع عن الشرك الموجب لدخول النار. ﴿وإن توليتم﴾ أي : أعرضتم عن الإيمان والتوبة من الشرك ﴿فاعلموا أنكم غير
٦٧٤
معجزي الله﴾
وذلك وعيد عظيم وإعلام بأنّ الله تعالى قادر على إنزال أشدّ العذاب بهم كما قال تعالى :﴿وبشر الذين كفروا بعذاب أليم﴾ أي : مؤلم وهو القتل والأسر في الدنيا والنار في الآخرة ولفظ البشارة هنا ورد على سبيل الإخبار أو على سبيل الاستهزاء كما يقال محبتهم الضرب وإكرامهم الشتم، وقوله تعالى :
﴿إلا الذين عاهدتم من المشركين﴾ استثناء من المشركين وهم بنو ضمرة حيّ من كنانة أمر الله تعالى رسوله ﷺ بإتمام عهدهم إلى مدّتهم، وكان قد بقي من مدّتهم تسعة أشهر، وكان السبب فيه أنهم لم ينقضوا كما قال تعالى :﴿ثم لم ينقصوكم شيئاً﴾ أي : من عهودكم التي عاهدتموهم عليها ﴿ولم يظاهروا﴾ أي : ولم يعاونوا ﴿عليكم أحداً﴾ من عدوّكم ﴿فأتموا إليهم عهدهم إلى مدّتهم﴾ أي : إلى انقضائها، ولا تجروهم مجرى الناكثين. وقوله تعالى :﴿إنّ الله يحب المتقين﴾ تعليل وتنبيه على أن إتمام عهدهم من باب التقوى.
﴿فإذا انسلخ﴾ أي : انقضى وخرج ﴿الأشهر الحرم﴾ التي حرم الله تعالى عليهم فيها قتالهم، وضربت أجلاً لسياحتهم والتعريف مثله في ﴿فأرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول﴾ (المزمل، ١٦)
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٧٢


الصفحة التالية
Icon