ولما قال تعالى :﴿فقاتلوا أئمة الكفر﴾ أتبعه بذكر ثلاثة أسباب تبعثكم على مقاتلتهم، كل واحد منها يوجب مقاتلتهم لو انفرد، فكيف بها حال الاجتماع : أحدها ما ذكره تعالى بقوله :
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٧٦
ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم﴾ أي : نقضوا عهودهم وهم الذين نقضوا عقد الصلح بالحديبية وأعانوا بني بكرة على خزاعة وهذا يدلّ على أنّ قتال الناكثين أولى من قتال غيرهم من الكفار ليكون ذلك زجراً لغيرهم وثانيها قوله تعالى :﴿وهموا بإخراج الرسول﴾ من مكة حين اجتمعوا في دار الندوة على ما ذكر في قوله تعالى :﴿وإذ يمكر بك الذين كفروا﴾. وقيل : هم اليهود نكثوا عهد الرسول وهموا بإخراجه من المدينة وهذا من أوكد ما يجب القتال لأجله. وثالثها قوله تعالى :﴿وهم بدؤوكم﴾ أي : بالقتال ﴿أوّل مرّة﴾ أي : هم الذين كانت منهم البداءة بالمقاتلة ؛ لأن رسول الله ﷺ جاءهم بالكتاب المنير وتحدّاهم به، فعدلوا عن المعارضة لعجزهم عنها إلى القتال فهم البادؤون بالقتال والبادىء أظلم، فما يمنعكم من أن تقاتلوهم بمثله وأن تصدموهم بالشر كما صدموكم، وبخهم الله تعالى بترك مقاتلتهم وحضهم عليها ثم وصفهم بما يوجب الحض عليها، وتقرر أن من كان في مثل صفاتهم من نكث العهد وإخراج الرسول والبدء بالقتال من غير موجب حقيق بأن لا تترك مصادمته، وأن يوبخ من فرّط فيها. ﴿أتخشونهم﴾ أي : أتخافونهم أيها المؤمنون فتتركون قتالهم ﴿فا أحق أن تخشوه﴾ فقاتلوا أعداءه ﴿إن كنتم مؤمنين﴾ أي : مصدقين بوعد الله تعالى ووعيده ؛ لأنّ قضية الإيمان الصحيح أن لا يخشى المؤمن إلا ربه ولا يبالي بمن سواه كقوله تعالى :﴿ولا يخشون أحداً إلا الله﴾ (الأحزاب، ٣٩)
ولما وبخهم الله تعالى على ترك القتال جدّد له الأمر به بقوله تعالى :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٧٦
٦٧٨
﴿قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم﴾ أي : بالقتل والأسر واغتنام الأموال.
فإن قيل : قد قال الله تعالى :﴿وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم﴾ (الأنفال، ٣٣)
فكيف قال تعالى هنا :﴿يعذبهم الله بأيديكم﴾ ؟
أجيب : بأن المراد بالعذاب في الآية الأولى عذاب الاستئصال، وبهذه الآية القتل والأسر. والفرق : أنّ عذاب الاستئصال قد يتعدّى إلى غير المذنب، وإنه في حقه لمزيد الثواب وعذاب القتل مقصور على المذنب وهذا كالتصريح بأنّ هذا الفعل وما عطف عليه فعله تعالى وإن كان جارياً على أيدي العباد كسباً لا يرد على ذلك أنه لا يقال يعذب الله المؤمنين بأيدي الكافرين ؛ لأنّ ذلك إنما امتنع لشناعة العبارة كما لا يقال : يا خالق القاذورات والأبوال والعذرات وإن كان هو الخالق لها. ﴿ويخزهم﴾ أي : بالذل والفضيحة في الدنيا والعذاب في الآخرة ﴿وينصركم عليهم﴾ أي : يمكنكم من قتلهم وإذلالهم ﴿ويشف صدور قوم مؤمنين﴾ أي : طائفة من المؤمنين وهم خزاعة. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : هم بطون من اليمن وسبأ قدموا مكة فأسلموا فلقوا من أهلها أذى شديداً فبعثوا إلى رسول الله ﷺ يشكون إليه فقال : أبشروا فإن الفرج قريب.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٧٨
ويذهب غيظ قلوبهم﴾ أي : كربها ووجدها، وقد وفى الله تعالى بما وعد، والآية من المعجزات. وقوله تعالى :﴿ويتوب الله على من يشاء﴾ استئناف أي : إنّ الله تعالى يهدي من يشاء إلى الإسلام كما فعل بأبي سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو، فهؤلاء كانوا من أئمة الكفر ورؤساء المشركين ثم مَنَّ الله تعالى عليهم بالإسلام يوم فتح مكة فأسلموا وحسن إسلامهم. ﴿وا عليم﴾ أي : يعلم ما سيكون كما يعلم ما قد كان فهو عليم بكل شيء، فيعلم من يصلح للتوبة ومن لا يصلح لها، أو يعلم ما في قلوبكم من الإقدام والإحجام ﴿حكيم﴾ أي : أحكم جميع أموره.
﴿أم حسبتم﴾ أي : أظننتم ﴿أن تتركوا﴾ فلا تؤمروا بالجهاد ولا تمتحنوا ليظهر الصادق من الكاذب، والخطاب للمؤمنين حين كره بعضهم القتال، وقيل للمنافقين. وأم : بمعنى همزة الإنكار. ﴿ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم﴾ أي : علماً ظاهراً تقوم به الحجة عليكم في مجاري عاداتكم على مقتضى عقولكم بأن يقع الجهاد في الواقع بالفعل، وعبر تعالى بلما دون لم لدلالتها مع استغراق الزمان على أن تبين ما بعدها متوقع كائن، وقوله تعالى :﴿ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة﴾ عطف على جاهدوا داخل في حيز الصلة كأنه قيل : ولما يعلم الله المجاهدين منكم والمخلصين غير المتخذي وليجة من دون الله. والوليجة : فعيلة من ولج كالدخيلة من دخل، وهي البطانة من المشركين يتخذونهم يفشون إليهم أسرارهم، وقال قتادة : هي الخيانة. وقال عطاء : هي الأولياء. ﴿وا خبير بما تعملون﴾ من مولاة المشركين وغيرها، فيجازيكم عليه.
٦٧٩