﴿يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء﴾ أقوالاً فقال مجاهد : هذه الآية متصلة بما قبلها نزلت في العباس وطلحة وامتناعهما من الهجرة، وقال ابن عباس رضي الله تعنهما : لما أمر النبيّ ﷺ بالهجرة إلى المدينة، فمنهم من تعلق به أهله وولده يقولون : ننشدك الله أن لا تضيعنا، فيرق لهم فيقيم عندهم ويدع الهجرة فنزلت، فهاجروا فجعل الرجل يأتيه ابنه أو أبوه أو أخوه أو بعض أقربائه فلا يلتفت إليه ولا ينزله ولا ينفق عليه حتى رخص لهم بعد ذلك. قال مقاتل : نزلت في التسعة الذين ارتدوا ولحقوا بمكة أي : لا تتخذوهم أولياء يمنعوكم عن الإيمان ويصدوكم عن الطاعة لقوله تعالى :﴿إن استحبوا﴾ أي : اختاروا ﴿الكفر على الإيمان﴾ أي : أقاموا عليه، تركوا الإيمان بالله ورسوله ﴿ومن يتولهم منكم﴾ أي : ومن يختر المقام معهم على الهجرة والجهاد ﴿فأولئك هم الظالمون﴾ أي : فقد ظلم نفسه بمخالفة أمر الله تعالى واختيار الكفار على المؤمنين.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٨٣
ولما نزلت هذه الآية قال الذين أسلموا ولم يهاجروا : إن نحن هاجرنا ضاعت أموالنا وذهبت تجارتنا وخربت دورنا وقطعنا أرحامنا، فنزل قوله تعالى :
﴿قل﴾ يا محمد لهؤلاء الذين قالوا هذه
٦٨٣
المقالة ﴿إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم﴾ أي : أقرباؤكم مأخوذ من العشرة، وقيل : من العَشَرة، فإن العشرة جماعة ترجع إلى عقد كعقد العشرة ﴿وأموال اقترفتموها﴾ أي : اكتسبتموها ﴿وتجارة تخشون كسادها﴾ أي : عدم نفاقها بفراقكم لها ﴿ومساكن ترضونها﴾ أي : تستوطنونها راضين بسكناها ﴿أحب إليكم من الله ورسوله﴾ أي : الهجرة إلى الله ورسوله ﴿وجهاد في سبيله﴾ فقعدتم لأجل ذلك عن الهجرة والجهاد، أي : إن كانت رعاية هذه المصالح الدنيوية عندكم أولى من طاعة الله وطاعة رسوله، ومن المجاهدة في سبيل الله ﴿فتربصوا﴾ أي : انتظروا متربصين وهو تهديد بليغ ﴿حتى يأتي الله بأمره﴾. قال مجاهد بقضائه أي : عقوبة عاجلة أو آجلة، وقال مقاتل بفتح مكة ﴿وا لا يهدي القوم﴾ أي : لا يخلق الهداية في قلوب ﴿الفاسقين﴾ أي : الخارجين عن طاعته، وفي هذا دليل على أنه إذا وقع تعارض بين مصالح الدين ومصالح الدنيا وجب على المسلم ترجيح مصالح الدين على مصالح الدنيا.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٨٣
لقد نصركم الله﴾
النصرة المعونة على الأعداء بإظهار المسلمين عليهم ﴿في مواطن﴾ أي : أماكن للحرب ﴿كثيرة﴾ كبدر وقريظة والنضير، والمراد بذلك غزواته ﷺ وسراياه وبعوثه، وكانت غزواته ﷺ على ما ذكر في الصحيحين من حديث زيد بن أرقم تسع عشرة غزوة زاد بريدة في حديثه قاتل في ثمان منها، وأمّا جميع غزواته وسراياه وبعوثه فقيل : سبعون، وقيل : ثمانون ﴿ويوم﴾ أي : واذكر يوم ﴿حنين﴾ وهو واد بين مكة والطائف أي : يوم قتالكم فيه هوازن وقوله تعالى :﴿إذ أعجبتكم كثرتكم﴾ بدل من يوم حنين، وكانت قصة حنين على ما نقله الرواة أنّ رسول الله ﷺ لما فتح مكة وقد بقي من شهر رمضان أيام، وخرج متوجهاً إلى حنين لقتال هوازن وثقيف، واختلفوا في عدد عسكر رسول الله ﷺ فقال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما : كانوا ستة عشر ألفاً. وقال الكلبيّ : كانوا عشرة آلاف، وقال قتادة : كانوا اثني عشر ألفاً، عشرة آلاف الذين حضروا فتح مكة، وألفان انضموا إليهم من الطلقاء، وهم الأسراء الذين أخذوا يوم فتح مكة وأطلقوا، وبالجملة كانوا عدداً كثيراً، وكان هوازن وثقيف أربعة آلاف، فلما التقوا قال رجل من المسلمين : لن نغلب اليوم من قلة إعجاباً بكثرتهم، فساء رسول الله ﷺ كلامه، ووكلوا إلى كلمة الرجل. وقيل : قائلها أبو بكر رضي الله عنه، وقيل : رسول الله ﷺ وهذا القول بعيد جداً ؛ لأنه ﷺ كان في أحواله كلها متوكلاً على الله تعالى منقطع القلب عن الدنيا وأسبابها ثم اقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم المشركون وتخلوا عن الذراري ثم تنادوا : يا حماة السوادة اذكروا الفضائل فتراجعوا وانكشف المسلمون حتى بلغ منهزمهم مكة وبقي رسول الله ﷺ في مركزه ليس معه إلا عمه العباس آخذاً بلجام بغلته، وابن عمه أبو سفيان بن الحارث وناهيك بهذا شهادة لرسول الله ﷺ على تناهي شجاعته قال البراء بن عازب : كانت هوازن رماة فلما حملنا عليهم انكشفوا وأكببنا على الغنائم واستقبلونا بالسهام فانكشف المسلمون عن رسول الله ﷺ ولم يبق معه إلا العباس وأبو سفيان، قال البراء : والذي لا إله إلا هو ما ولي رسول الله ﷺ دبره قط قد رأيته وأبو سفيان آخذ بالركاب والعباس أخذ بلجام الدابة وهو يقول : أنا النبيّ لا كذب، أنا ابن عبد المطلب
٦٨٤


الصفحة التالية
Icon