﴿اتخذوا أحبارهم ورهبانهم﴾ أي : اتخذ اليهود أحبارهم أي : علماءهم والحبر في الأصل العالم من أي طائفة كان واختص في العرف بعلماء اليهود من ولد هرون وكان أبو الهيثم يقول : واحد الأحبار حبر بالفتح وينكر الكسر، واتخذ النصارى رهبانهم أي : عبادهم أصحاب الصوامع، والراهب في الأصل من تمكنت الرهبة من قلبه فظهر آثارها على وجهه ولباسه واختص في العرف بعلماء النصارى أصحاب الصوامع ﴿أرباباً من دون الله﴾ لأنهم أطاعوهم في تحريم ما أحلّ الله تعالى وتحليل ما حرّم الله تعالى كما تطاع الأرباب في أوامرهم ونحوه تسمية أتباع الشيطان فيما يوسوس به عباده كما قال تعالى :﴿بل كانوا يعبدون الجنّ﴾ (سبأ، ٤١)
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٨٦
وقال إبراهيم الخليل عليه السلام :﴿يا أبت لا تعبد الشيطان﴾، وعن عدي بن حاتم أنه قال : أتيت النبيّ ﷺ وفي عنقي صليب من ذهب فقال :"يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك" فطرحته ثم انتهيت إليه وهو يقرأ سورة براءة فوصل إلى هذه الآية فقلت : إنا لسنا نعبدهم فقال : أليس يحرمون ما أحلّ الله فتحرّمونه ويحلون ما حرّمه فتحلونه، قلت : بلى، قال : تلك عبادتهم" قال عبد اللهبن المبارك :
*وهل بدّل الدين إلا الملوك ** وأحبار سوء ورهبانها*
فإن قيل : إنه تعالى كفرهم بسبب أن أطاعوا الأحبار والرهبان فالقاسق يطيع الشيطان فوجب الحكم بكفره على ما هو قول الخوارج. أجيب : بأنّ الفاسق وإن كان يقبل دعوى الشيطان إلا أنه
٦٩١
لا يعظمه بل يلعنه ويستخف به وأمّا هؤلاء فكانوا يقبلون قول الأحبار والرهبان ويعظمونهم وقد يبالغ بعض الجهال في تعظيم شيخه بحيث يميل طبعه إلى القول بالحلول والاتحاد وذلك الشيخ إذا كان طالباً للدنيا بعيداً عن الآخر بعيداً عن الدين قد يلقي إليهم أنّ الأمر كما يقولون ويعتقدون، وعن الفضيل رضي الله تعالى عنه ما أبالي أطعت مخلوفاً في معصية الخالق أو صليت لغير القبلة ﴿والمسيح بن مريم﴾ أي : اتخذوه كذلك لكونهم جعلوه ابناً فأهلوه للعبادة بذلك مع كونه ابن مريم فهو لا يصلح للإلهية بوجه لمشاركته للآدميين في الحمل والولادة والأكل والشرب وغير ذلك من أحوال البشر الموجبة للحاجة المنافية للإلهية ﴿وما أمروا﴾ أي : في التوراة والإنجيل ﴿إلا ليعبدوا﴾ أي : ليطيعوا على وجه التعبد ﴿إلهاً واحداً﴾ أي : لا يقبل القسمة بوجه لا بالذات ولا بالمماثلة وهو الله تعالى وأما طاعة الرسول ﷺ وطاعة من أمر الله بطاعته فهي في الحقيقة طاعة الله تعالى وقوله تعالى :﴿لا إله إلا هو﴾ صفة ثانية أو استئناف مقرّر للتوحيد ﴿سبحانه عما يشركون﴾ أي : تعالى وتنزه عن أن يكون له شريك في العبادة والأحكام وأن يكون له شريك في الإلهية يستحق التعظيم والإجلال.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٨٦
﴿يريدون﴾ أي : رؤساء اليهود والنصارى ﴿أن يطفئوا نور الله﴾ أي : شرعه وبراهينه الدالة على واحدانيته وتقديسه عن الولد أو القرآن أو نبوّة محمد ﷺ ﴿بأفواههم﴾ أي : بأقوالهم الكاذبة وشركهم وفي تسمية دينه أو القرآن أو نبوّة محمد ﷺ نوراً ومعاندتهم إطفاءه بأفواههم تمثيل لحالهم في طلبهم أن يبطلوا نور الله بالتكذيب بالشرك بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم منبث في الآفاق يريد الله أن يزيده ويبلغه الغاية القصوى في الإشراق والإضاءة ليطفئه بنفخه ويطمسه ﴿ويأبى الله﴾ أي : لا يرضى ﴿إلا أن يتمّ نوره﴾ بإعلاء التوحيد وإعزاز الإسلام.
فإن قيل : كيف جاز أبى الله إلا كذا ولا يقال كرهت أو أبغضت إلا زيداً ؟
أجيب : بأنه أجرى أبى مجرى لم يرد ألا ترى كيف قوبل ﴿يريدون أن يطفئوا﴾ بقوله :﴿ويأبى الله﴾ وكيف أوقع موقع ولا يريد الله إلا أن يتم نوره وقوله تعالى :﴿ولو كره الكافرون﴾ محذوف الجواب لدلالة ما قبله أي : ولو كرهوا غلبته.
﴿هو الذي أرسل رسوله﴾ محمداً ﷺ ﴿بالهدى﴾ أي : القرآن الذي أنزله عليه وجعله هادياً له ﴿ودين الحق﴾ أي : دين الإسلام ﴿ليظهره﴾ أي : ليعليه ﴿على الدين كله﴾ أي : جميع الأديان المخالفة له وهذا كالبيان لقوله تعالى :﴿ويأبى الله إلا أن يتمّ نوره﴾ ولذلك كرّر ﴿ولو كره المشركون﴾ غير أنه وضع المشركون موضع الكافرون للدلالة على أنهم ضمو الكفر بالرسول إلى الشرك بالله تعالى.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٩٢