فإن قيل : الإسلام لم يضمّ غالباً لسائر الأديان في أرض الصين والهند والروم وسائر بلاد الكفر أجيب عن ذلك بأوجه : الأوّل : بأنه لا دين بخلاف الإسلام إلا وقد قهرهم المسلمون وظهروا عليهم في بعض المواضع وإن لم يكن ذلك في جميع مواضعهم فقهروا اليهود وأخرجوهم من بلاد العرب وغلبوا النصارى على بلاد الشأم وما والاها إلى ناحية الروم والمغرب وغلبوا المجوس على ملكهم وغلبوا عُبَّاد الأصنام على كثير من بلادهم مما يلي الهند والترك وكذا سائر الأديان فثبت أنّ الذي أخبر الله تعالى عنه في هذه الآية قد وقع وحصل فكان ذلك إخباراً عن الغيب فكان معجزاً.
٦٩٢
الوجه الثاني : ما روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال : هذا وعد من الله تعالى بجعل الإسلام غالباً على جميع الأديان وتمام هذا إنما يحصل عند خروج عيسى عليه السلام فإنه لا يبقى أهل دين إلا دخلوا في الإسلام، وقال السدي : ذلك عند خروج المهدي لا يبقى أحد إلا دخل في الإسلام أو أدّى الخراج.
الوجه الثالث : أنّ المراد إظهاره في جزيرة العرب وقد حصل ذلك فإنه تعالى ما أبقى فيها أحداً من الكفار، وقال ابن عباس : الهاء في ﴿ليظهره﴾ إلى الرسول ﷺ والمعنى ليعلمه شرائع الدين كلها ويظهره عليها حتى لا يخفى عليه شيء منها.
﴿يأيها الذين آمنوا إنّ كثيراً من الأحبار﴾ أي : علماء اليهود ﴿والرهبان﴾ أي : عباد النصارى ﴿ليأكلون﴾ أي : يتناولون ﴿أموال الناس بالباطل﴾ كالرشا وإنما عبر بالأكل لأنه معظم المراد من المال وإشارة إلى تحقير الأحبار والرهبان بأن يفعلوا ما ينافى مقامهم الذي أقاموا أنفسهم فيه بإظهار الزهد والمبالغة في التدين قال الرازي : ولعمري من تأمّل أحوال الناس في زماننا وجد هذه الآيات كأنها ما أنزلت إلا في شأنهم وشرح أحوالهم فترى الواحد منهم يدعي أنه لا يلتفت إلى الدنيا ولا يتعلق خاطره بجميع المخلوقات وأنه في الطهارة والعظمة مثل الملائكة المقرّبين حتى إذا آل الأمر إلى الرغيف الواحد تراه يتهالك عليه ويحمل نهاية الذل والدناءة في تحصيله ﴿ويصدّون﴾ الناس ﴿عن سبيل الله﴾ أي : دينه ولما كان مطلوب الخلق في الدنيا المال والجاه بين تعالى في صفة الأحبار والرهبان كونهم مشغوفين بهذين الأمرين أمّا المال فهو المراد بقوله تعالى :﴿ليأكلون أموال الناس بالباطل﴾ (التوبة، ٣٤)
وأما الجاه فهو المراد بقوله :﴿ويصدّون عن سبيل الله﴾ فإنهم لو أقرّوا بأنّ محمداً ﷺ على الحق لزمهم متابعته وحينئذ كان يبطل حكمهم وتزول حرمتهم ولأجل الخوف من هذا المحذور كانوا يبالغون في المنع من متابعته ﷺ ويبالغون في إلقاء الشبهات وفي استخراج وجوه المكر والخديعة وفي منع الخلق من قبول دينه الحق ﴿والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله﴾ يحتمل أن يراد بقوله :﴿الذين﴾ أولئك الأحبار والرهبان فيكون مبالغة في وصفهم بالحرص الشديد على أخذ أموال الناس بقوله تعالى :﴿ليأكلون أموال الناس بالباطل﴾ ووصفهم أيضاً بالبخل الشديد والامتناع من إخراج الواجبات عن أموال أنفسهم بقوله تعالى :﴿والذين يكنزون الذهب والفضة﴾ وأن يراد المسلمون الذين يجمعون المال ولا يؤدّون حقه ويكون اقترانهم بالمرتشين من اليهود والنصارى تغليظاً ودلالة على أنّ من يأخذ منهم السحت ومن لا يعطي منكم بطيب زكاة ماله سواء في استحقاق البشارة بالعذاب الأليم وأن يراد كل من كنز المال ولم يخرج منه الحقوق الواجبة سواء كان من الأحبار والرهبان أو كان من المسلمين.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٩٢
لما روي عن زيد بن وهب قال مررت على أبي ذر بالربذة فقلت : ما أنزلت بهذه الأرض فقال : كنا بالشأم فقرأت :﴿والذين يكنزون الذهب﴾ الآية فقال معاوية : ما هذا فينا ما هذا إلا في أهل الكتاب، فقلت : إنها فيهم وفينا فصار ذلك سبباً لوحشة بيني وبينه فكتب إليّ عثمان أن أقبل إلي فلما قدمت المدينة انحرف الناس عني كأنهم لم يروني من قبل فشكوت ذلك إلى عثمان فقال لي : تنح قريباً فقلت : إني والله لن أدع ما كنت أقول وأصل الكنز في كلام العرب الجمع وكل شيء جمع بعضه إلى بعض فهو مكنوز يقال : هذا جسم مكتنزاً الأجزاء إذا كان مجتمع الأجزاء، واختلف علماء الصحابة في المراد بهذا الكنز المذموم على قولين : الأوّل : وهو ما عليه الأكثر أنه المال الذي لم تؤدّ زكاته لما روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال : قال رسول الله ﷺ "من
٦٩٣
آتاه الله مالاً فلم يؤدّ زكاته مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه ـ يعني : شدقيه ـ ثم يقول أنا مالك أنا كنزك ثم تلا ﴿ولا تحسبّن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله﴾ (آل عمران، ١٨٠)
الآية"، والشجاع : الحية، والأقرع صفته لطول عمره لأنّ من طال عمره تمزق شعره وذهب وهي صفة أخبث الحيات، والزبيبتان : الزائدتان في الشدقين.