وروي لما نزلت هذه الآية كبر على المسلمين فذكر عمر رضي الله عنه لرسول الله ﷺ فقال : إنّ الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم" وقال ابن عباس في قوله تعالى :﴿ولا ينفقونها في سبيل الله﴾ يريد الذين لا يؤدّون زكاة أموالهم، قال القاضي عياض تخصيص هذا المعنى بمنع الزكاة لا سبيل إليه بل الواجب أن يقال : الكنز هو الذي ما أخرج عنه ما وجب إخراجه ولا فرق بين الزكاة وبين ما يجب من الكفارات وبين ما يلزم من نفقة الحج وبين ما يجب إخراجه في الدين والحقوق والإنفاق على الأهل والعيال وضمان المتلفات وأروش الجنايات فيجب في كلّ هذا الآثام وأن يكون داخلاً في الوعيد والقول الثاني : إنّ المال الكثير إذا جمع فهو الكنز المذموم واحتج الذاهبون إلى هذا القول بعموم الآية وبما روي أنه ﷺ قال لما نزلت هذه الآية :"تبا الذهب تبا للفضة" قالها ثلاثاً فقالوا له : أي مال نتخذ قال :"لساناً ذاكراً وقلباً خاشعاً وزوجة تعين أحدكم على دينه" وقال عليه الصلاة والسلام :"من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها" وتوفي شخص فوجد في مئزره دينار فقال ﷺ "كية" وتوفي آخر فوجد في مئزره ديناران فقال :"كيتان" وأجاب القائلون بالأوّل بأنّ هذا كان قبل فرض الزكاة فأمّا بعد فرض الزكاة فالله أعدل وأكرم أن يجمع عبده مالاً من حيث أذن فيه ويؤدّي ما أوجب عليه فيه ثم يعاقبه.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٩٢
وقد روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه سئل عن هذه الآية فقال : كانت قبل أن تنزل الزكاة فلما نزلت جعلها الله طهرة للأموال وقال ما أبالي لو أنّ لي مثل أحد ذهباً أعلم عدده أزكيه وأعمل فيه بطاعة الله تعالى.
وروي أنه ﷺ قال :"نعم المال الصالح للرجل الصالح" وقال ﷺ "ما أدّي زكاته فليس بكنز" وكان في زمانه ﷺ جماعة معهم الأموال كعثمان وعبد الرحمن بن عوف وكان عليه الصلاة والسلام يعدّهم من أكابر الصحابة وما عابهم أحد ممن أعرض عن القنية لأن الإعراض اختيار للأفضل وإلا دخل في الورع والزهد في الدنيا والاقتناء مباح موسع لا يذم صاحبه وكونه أدخل في الورع لأمور منها أن كسب المال شاق شديد وحفظه بعد حصوله أشدّ وأشق وأصعب فيبقى الإنسان طول عمره تارة في طلب التحصيل وأخرى في طلب الحفظ ثم إنه لا ينتفع منها إلا بالقليل ومنها أن
٦٩٤
كثرة المال والجاه تورث الطغيان كما قال تعالى :﴿إنّ الإنسان ليطغى أن رآه استغنى﴾ (العلق، آيتان : ٦ ـ ٧)
فالطغيان يمنع من وصول العبد إلى مقام رضوان الرحمن ويوقع في الخذلان والخسران ومنها أنه تعالى أوجب الزكاة وذلك سعي في تنقيص المال ولو كان تكثيره فضيلة لما سعى الشرع في تنقيصه.
فإن قيل : قال عليه الصلاة والسلام :"اليد العليا خير من اليد السفلى" أجيب : بأنّ اليد العليا إنما إفادته صفة الخيرية لأنه لما أعطى ذلك القليل تسبب أنه حصل في ماله ذلك النقصان القليل فحصل له الخيرية وبسبب أنه حصل للفقير بذلك الزيادة القليلة حصلت له المرجوحية.
فإن قيل : إنه تعالى ذكر شيئين وهما الذهب والفضة ثم قال :﴿ولا ينفقونها﴾ فلم أفرد الضمير ؟
أجيب : بأنّ الضمير راجع إلى المعنى دون اللفظ لأنّ كل واحد منهما جملة وافية وعدّة كثيرة ودنانير ودراهم فهو كقوله تعالى :﴿وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا﴾ (الحجرات، ٩)
وقيل : ذهب به إلى المكنوز، وقيل : إلى الأموال، وقيل : التقدير ولا ينفقون الفضة وحذف الذهب لأنه داخل في الفضة من حيث أنهما معاً يشتركان في ثمنية الأشياء أو أن ذكر أحدهما يغنى عن الآخر كقوله تعالى :﴿وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها﴾ (الجمعة، ١١)
جعل الضمير للتجارة وقيل : التقدير والذهب كذلك كما أنّ قول القائل : فإني وقيار بها لغريب أي : وقيار كذلك.
فإن قيل : ما السبب في كونه خصهما بالذكر من سائر الأموال ؟
أجيب : بأنهما خصا من دون سائر الأموال لأنهما أشرف الأموال وهما اللذان يقصدان بالكنز ومن كنزا عنده لم يعدم سائر أجناس المال فكان ذكر كنزهما دليلاً على ما سواهما ثم إنه تعالى لما ذكر من يكنز الذهب والفضة قال تعالى :﴿فبشرهم﴾ أي : أخبرهم ﴿بعذاب أليم﴾ أي : مؤلم وعبر بالبشارة على سبيل التهكم.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٩٢
يوم يحمى عليها﴾ أي : الكنوز بأن تدخل ﴿في نار جهنم﴾ فيوقد عليها ﴿فتكوى﴾ أي : تحرق ﴿بها﴾ أي : بهذه الأموال ﴿جباههم وجنوبهم وظهورهم﴾ قال ابن مسعود رضي الله عنه لا يوضع دينار على دينار ولا درهم على درهم ولكن يوسع جلده حتى يوضع كل دينار ودرهم في موضع على حدته، وسئل أبو بكر الورّاق لم خصت الجباه والجنوب والظهور بالكي قال : لأنّ الغنيّ صاحب الكنز إذا رأى الفقير قبض جبهته وإذا جلس الفقير بجنبه تباعد عنه وولى عليه ظهره،
٦٩٥