وروي أنها نزلت في الجدّ بن قيس حين تخلف عن غزوة تبوك وقال لرسول الله ﷺ هذا مالي أعينك به فاتركني.
ثم علل تعالى سبب منع القبول بقوله تعالى :﴿إنكم﴾ أي : لأنكم ﴿كنتم قوماً فاسقين﴾ والمراد بالفسق هنا الكفر ويدل عليه قوله تعالى :
﴿وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا با وبرسوله﴾ أي : وما منعهم قبول نفقاتهم إلا كفرهم، وقرأ حمزة والكسائي : يقبل، بالياء على التذكير لأنّ تأنيث النفقات غير حقيقي، والباقون بالتاء على التأنيث ﴿ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى﴾ أي : متثاقلون لا يأتونها قط بنشاط ﴿ولا ينفقون﴾ أيّ : نفقة من واجب أو غيره ﴿إلا وهم كارهون﴾ أي : في حال الكراهة وإن ظهر خلاف ذلك وذلك كله لعدم النية الصالحة وهذا لا ينافي طوعاً لأنّ ذلك بحسب الظاهر وهذا بحسب الواقع.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٧٠٦
﴿فلا تعجبك﴾ يا محمد ﴿أموالهم﴾ أي : وإن أنفقوها في سبيل الله وجهزوا بها الغزاة فإنّ ذلك من غير إخلاص منهم ولا حسن نية ولا جميل طوية ﴿ولا أولادهم﴾ الذين يتجملون بهم فإنّ
٧٠٨
ذلك استدراج ووبال كما قال تعالى :﴿إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا﴾ وإن كان يتراءى أنها لذيدة لأنّ ذلك من شأن الحياة وتعذيبهم فيها بسبب ما يكابدون من جمعها وحفظها من المتاعب وما يرون فيها من الشدائد والمصائب.
فإن قيل : هذا لا يختص بالمنافق فما فائدة تخصيصه به ؟
أجيب : بأنّ المؤمن قد علم أنه مخلوق للآخرة وأنه يثاب بالمصائب الحاصلة في الدنيا فلم يكن المال والولد في حقه عذاباً والمنافق لا يعتقد ذلك فبقي ما يحصل له في الدنيا من التعب والمشقة والغم والحزن على المال والولد عذاباً عليه في الدنيا ﴿وتزهق﴾ أي : تخرج ﴿أنفسهم﴾ بسببها ﴿وهم﴾ أي : والحال أنهم ﴿كافرون﴾ أي : يموتون على الكفر فتكون عاقبتهم بعد عذاب الدنيا عذاب الآخرة وهكذا كل من أراد الله تعالى استدراجه في الغالب كثر ماله وولده فكثر إعجابه بماله وولده وبطره وكفره نعمة الله تعالى.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٧٠٨
والإعجاب السرور بالشيء مع نوع الافتخار به ومع اعتقاد أنه ليس لغيره ما يساويه وهذه الحالة تدل على استغراق النفس بذلك الشيء وانقطاعه عن الله تعالى فإنه لا يبعد في حكم الله تعالى أن يزيل ذلك الشيء عن ذلك الإنسان ويجعله لغيره والإنسان متى كان متذكراً لهذا المعنى زال إعجابه بذلك الشيء ولذلك قال ﷺ "ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه" وكان ﷺ يقول :"هلك المكثرون"، وقال أيضاً :"مالك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدّقت فأبقيت".
وروي من كثر ماله اشتدّ حسابه ومن أراد من السلطان قرباً ازداد من الله بعداً والأخبار الواردة في هذا الباب كثيرة والمقصود منها الزجر عن الإطناب من الدنيا والمنع من التهالك في حبها والافتخار بها لأنّ الإنسان خلق للآخرة لا للدنيا فينبغي أن لا يشتدّ عجبه بالدنيا وأن لا يميل قلبه إليها فإن المسكن الأصلي له هو الآخرة لا الدنيا، ولما بين تعالى كون المنافقين مستجمعين لكل مضار الدنيا والآخرة خالين عن جميع منافع الآخرة والدنيا عاد إلى ذكر فضائحهم وقبائحهم فمنها إقدامهم على الأيمان الكاذبة كما قال تعالى :
﴿ويحلفون﴾ أي : المنافقون ﴿با﴾ للمؤمنين إذا جاؤوا معهم ﴿إنهم لمنكم﴾ أي : على دينكم وملتكم ﴿وما هم منكم﴾ أي : لكفر قلوبهم ﴿ولكنهم قوم يفرقون﴾ أي : يخافون منكم أن تفعلوا بهم ما تفعلوا بالمشركين فيظهرون الإسلام تقية.
﴿لو يجدون ملجأ﴾ أي : حصناً يلجؤن إليه وقيل : لو وجدوا مهرباً هربوا إليه، وقيل : لو يجدون قوماً يأمنون عندهم على أنفسهم منكم لصاروا إليهم وفارقوكم ﴿أو مغارات﴾ أي : سراديب
٧٠٩
جمع مغارة وهو الموضع الذي يغور فيه الإنسان أي : يستتر ﴿أو مدّخلاً﴾ أي : موضعاً يدخلونه ﴿لولوا إليه﴾ والمعنى أنهم لو وجدوا مكاناً على أحد هذه الوجوه الثلاثة مع أنها شر الأمكنة لدخلوا إليه وتحرّزوا فيه ﴿وهم يجمحون﴾ أي : يسرعون في دخول ذلك المكان إسراعاً لا يردّ وجوههم شيء ومن هذا يقال : جمح الفرس وهو فرس جموح وهو الذي إذا حمل لا يرده اللجام، ثم ذكر تعالى نوعاً آخر من قبائح المنافقين وهو طعنهم في رسول الله ﷺ بسبب أخذ الصدقات بقوله تعالى :