﴿وا عليم﴾ أي : بالغ العلم بما يصلح الدين والدنيا ويؤلف بين قلوب المسلمين ﴿حكيم﴾ يضع الأشياء في مواضعها وإنما أضيفت الصدقات إلى الأصناف الأربعة الأولى بلام الملك وإلى الأربعة الأخيرة بفي الظرفية للإشعار بإطلاق الملك في الأربعة الأولى وتقييده في الأخيرة حتى إذا لم يحصل الصرف في مصارفها استرجع بخلافه في الأولى ويجب تعميم الأصناف الثمانية في القسم إن أمكن بأن قسم الإمام ولو بنائبة ووجدوا لظاهر الآية سواء في ذلك زكاة الفطر وزكاة المال وإن لم يمكن بأن قسم المالك إذ لا عامل أو الإمام ووجد بعضهم كأن جعل عاملاً بأجرة من بيت المال فتعميم من وجد منهم وعلى الإمام تعميم آحاد كل صنف من الزكاة الحاصلة عنده إذ لا يتعذر عليه ذلك أو على المالك أيضاً إن انحصر الآحاد بالبلد بأن سهل عادة ضبطهم ومعرفة عددهم ووفّى بهم المال فإن أخل أحدهما بصنف ضمن وإن لم ينحصر أو لم يف بهم المال ويجب إعطاء ثلاثة فأكثر من كل صنف لذكره في الآية بصيغة الجمع وهو المراد في سبيل الله وابن السبيل الذي هو للجنس ولا عامل في قسم المالك ويجوز حيث كان أن يكون واحداً إن حصلت به الكفاية كما يستغنى عنه فيما مرّ وتجب التسوية بين الأصناف غير العامل لا بين آحاد الصنف إلا أن يقسم الإمام وتتساوى الحاجات فتجب التسوية لأنّ عليه التعميم فعليه التسوية بخلاف المالك إذا لم ينحصروا أو لم يف بهم المال ولا يجزيه نقل الزكاة من بلد وجوبها مع وجود المستحقين فيه إلى بلد آخر أو حال الحول والمال ببادية فرقت الزكاة بأقرب البلاد إليه أمّا الإمام ولو بنائبه فله نقلها ولو امتنع المستحقون من أخذها قوتلوا وشرط أخذ الزكاة من هذه الثمانية حرّية وإسلام وأن لا يكون هاشمياً ولا مطلبياً ولا مولى لهما كما بينته السنة هذا مذهب الشافعيّ رضي الله تعالى عنه وقال الرازي وغيره : لا دلالة في الآية على قول الشافعي في أنه لا بدّ من صرفها إلى جميع الأصناف لأنه تعالى جعل جملة الصدقات لهؤلاء الأصناف وأمّا أن صدقة زيد بعينها يجب توزيعها على الأصناف كلها فلا كما أنّ قوله تعالى :﴿واعلموا أنما غنمتم من شيء فإنّ خمسه﴾ (الأنفعال، ٤١)
جزء : ١ رقم الصفحة : ٧٠٨
الآية، يوجب قسم الخمس على الطوائف من غير توزيع بالاتفاق وما ذهب إليه الشافعيّ رضي الله تعالى عنه قول عكرمة وما ذهب إليه الأئمة الثلاثة من جواز صرفها إلى صنف واحد هو قول عمر وحذيفة وابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين وكل على هدى من ربهم.
فإن قيل : كيف وقعت هذه الآية في تضاعيف ذكر المنافقين ومكايدهم ؟
أجيب : بأنه تعالى ذكر ذلك ليدل على أنّ هذه الأصناف مصارف الصدقات خاصة دون غيرهم على أنهم ليسوا منهم حسماً لأطماعهم وإشعاراً باستحقاقهم الحرمان وأنهم بعداء عنها وعن مصارفها فمالهم ومالها وما
٧١٢
سلطهم على التكلم فيها وبمن قاسمها.
﴿ومنهم﴾ أي : المنافقين ﴿الذين يؤذون النبيّ﴾ هذا نوع آخر من جهالات المنافقين وهو أنهم كانوا يؤذون النبي ﷺ ويعيبونه وينقلون حديثه ﴿ويقولون﴾ إذا نهوا عن ذلك لئلا يبلغه ﴿هو أذن﴾ أي : يسمع كل ما يقال له ويصدقه سمي بالجارحة للمبالغة كأنه من فرط استماعه صار جملته آلة للسماع كما يسمى الجاسوس عيناً لذلك واختلف في سبب نزول هذه الآية فقال ابن عباس : نزلت في جماعة من المنافقين كانوا يؤذون رسول الله ﷺ فقال بعضهم لبعض : لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغه ما تقولون فيقع بنا فقال الجلاس بن سويد وهو من المنافقين : بل نقول ما شئنا ثم نأتيه فننكر ما قلنا ونحلف له فيصدقنا فيما نقول فإنّ محمداً أذن ـ أي : أذن سامعة ـ يسمع كل ما يقال له ويقبله، وقال محمد بن إسحاق : نزلت في رجل من المنافقين يقال له : نبيل بن الحرث وكان رجلاً ثائر الشعر أحمر العينين أسفع الخدين مشوّه الخلقة وقد قال ﷺ "من أراد أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث" وكان ينم حديث النبيّ ﷺ إلى المنافقين فقيل له : لا تفعل ذلك فقال : إنما محمد أذن فمن حدثه شيئاً صدقه فنقول : ما شئنا ثم نأتيه فنحلف له فيصدقنا، فنزلت. وقال الحسن : كان المنافقون يقولون : ما هذا الرجل إلا أذن من شاء صرفه حيث شاء لا عزيمة له.
ومقصود المنافقين بقولهم هو أذن ليس له ذكاء ولا بعد غور بل هو سليم القلب سريع الاغترار بكل ما يسمع فلهذا السبب سموه بأذن وقوله تعالى :﴿قل﴾ يا محمد لهؤلاء المنافقين ﴿أذن خير لكم﴾ تصديق لهم بأنه أذن لكن لا على الوجه الذي ذموه به بل من حيث إنه يسمع الخير ويقبله ثم فسر تعالى ذلك بقوله تعالى :﴿يؤمن با﴾ أي : يصدّق به لما قام عنده من الأدلة ﴿ويؤمن للمؤمنين﴾ أي : ويصدّقهم ويقبل قولهم ولا يقبل قول المنافقين.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٧٠٨


الصفحة التالية
Icon