فإن قيل : لم عدى فعل الإيمان بالباء إلى الله تعالى وإلى المؤمنين باللام أجيب : بأنّ الإيمان المعدى إلى الله تعالى المراد التصديق الذي هو نقيض الكفر، فعدي بالباء، والإيمان المعدي للمؤمنين معناه الاستماع منهم والتسليم لقولهم فعدي باللام كما في قوله تعالى :﴿وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين﴾ (يوسف، ١٧)
وقوله تعالى :﴿فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه﴾ (يوسف، ٨٣)
وقوله تعالى :﴿أنؤمن لك واتبعك الأرذلون﴾ (الشعراء، ١١١)
وقوله :﴿آمنتم له قبل أن آذن لكم﴾ (طه، ٧١)
وقرأ نافع : أذن في الموضعين بتسكين الذال، والباقون بالرفع ﴿ورحمة﴾ أي : وهو رحمة ﴿للذين آمنوا منكم﴾ أي : لمن أظهر الإيمان حيث يقبله ولا يكشف سرّه وفيه تنبيه على أنه ليس يقبل قولكم جهلاً بحالكم بل رفقاً بكم وترحماً عليكم وقرأ حمزة ورحمة بالجرّ عطفاً على خير، والباقون بالرفع، ولما بين سبحانه وتعالى كونه سبباً للخير بين أنّ كل من آذاه استوجب العذاب الأليم بقوله تعالى :﴿والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم﴾ أي : مؤلم لأنه إذا كان يسعى في إيصال الخير والرحمة إليهم مع كونهم في غاية الخبث والخزي ثم أنهم مع ذلك يقابلون إحسانه بالإساءة وخيراته بالشرور فلا شك أنهم يستحقون العذاب الشديد من الله تعالى ثم ذكر نوعاً آخر من قبائح أفعال المنافقين بقوله تعالى :
٧١٣
جزء : ١ رقم الصفحة : ٧٠٨
﴿يحلفون با لكم﴾ أيها المؤمنون ﴿ليرضوكم﴾ أي : لترضوا عنهم واختلف في سبب نزول هذه الآية فقال مقاتل والكلبي : نزلت في رهط من المنافقين تخلفوا عن غزوة تبوك فلما رجع رسول الله ﷺ أتوا يعتذرون إليهم ويؤكدون معاذيرهم بالحلف ليعذروهم ويرضوا عنهم.
وقال قتادة والسدي : اجتمع ناس من المنافقين فيهم جلاس بن سويد ووديعة بن ثابت فوقعوا في النبيّ ﷺ وقالوا : إن كان ما يقول محمد حقاً فنحن أشر من الحمير وكان عندهم غلام من الأنصار يقال له : عامر بن قيس فحقروه وقالوا هذه المقالة فغضب الغلام وقال والله ما يقول محمد حق وأنتم أشر من الحمير ثم أتى النبي ﷺ فأخبره فدعاهم فسألهم فحلفوا أنّ عامراً كذب وحلف عامر أنهم كذبة فصدّقهم النبيّ ﷺ فجعل عامر يدعو اللهمّ صدق الصادق وكذب الكاذب فنزلت ﴿وا ورسوله أحق أن يرضوه﴾ أي : بالإرضاء بالطاعة والوفاق وإنما وحد الضمير لأنه لا تفاوت بين رضا الله ورضا رسوله ﷺ لتلازمهما كقولك : إحسان زيد وإجماله نعشني وجبر مني أو أن العالم بالأسرار والضمائر هو الله تعالى وإخلاص القلب لا يعلمه إلا الله تعالى ولهذا السبب خص الله تعالى نفسه بالذكر أو لأنّ الكلام في إيذاء الرسول وإرضائه أو خبر الله أو رسوله محذوف وفي كلام البيضاوي إشارة إلى أن المذكور خبر الأوّل لأنه المتبوع وفي كلام سيبويه أنه للثاني لكونه أقرب مع السلامة من الفصل بين المبتدأ والخبر ﴿إن كانوا﴾ أي : هؤلاء المنافقون ﴿مؤمنين﴾ أي : مصدّقين بوعد الله ووعيده في الآخرة.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٧١٤
ألم يعلموا﴾
قال أهل المعاني : هذا خطاب لمن علم شيئاً ثم نسيه وتركه فيقال له : ألم تعلم أنه كان كذا وكذا ولما طال مكث رسول الله ﷺ بين أظهر المؤمنين والمنافقين وعلمهم من أحكام الدين ما يحتاجون إليه خاطب المنافقين بقوله تعالى :﴿ألم يعلموا﴾ أنّ من شرائع الدين
٧١٤
التي علمهم رسولنا ﴿أنه﴾ أي : الشأن ﴿من يحادد الله﴾ أي : من يخالف الله ﴿ورسوله﴾ وأصل المحادّة في اللغة المخالفة والمجانبة والمعاداة واشتقاقه من الحدّ يقال : حادّ فلان فلاناً أي : صار في حدّ غير حدّه، كقولك شاقه أي : صار في شق غير شقه، ومعنى ﴿يحادد الله﴾ أي : يصير في حدّ غير حدّ أولياء الله تعالى بالمخالفة وقوله تعالى :﴿فأنّ له نار جهنم﴾ أي : على حذف الخبر أي : فحق أنّ له نار جهنم لأنّ الفاء واقعة في جواب الشرط فتقتضي جملة و ﴿فأنّ له نار جهنم﴾ مفرد في موضع رفع بالابتداء وقدر خبره مقدماً لأنّ أنّ لا يبتدأ بها قال الرازي أو أنّ معناه فله نار جهنم وأنّ تكررت للتوكيد واعترض بأنّ فيه الفصل بين المؤكد والمؤكد بأجنبي ثم قال أو جواب من محذوف والتقدير ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله يهلك فأنّ له نار جهنم ﴿خالداً فيها﴾ أي : دائماً من غير انقضاء كما كانت نيته المحادة أبداً، ثم نبه على عظم هذا الجزاء بقوله تعالى :﴿ذلك﴾ أي : الأمر البعيد الوصف العظيم الشأن ﴿الخزي العظيم﴾ أي : الهلاك الدائم.


الصفحة التالية
Icon