فإن قيل : أيّ فائدة في قوله تعالى :﴿فاستمتعوا بخلاقهم﴾ وقوله تعالى :﴿كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم﴾ مغن عنه كما أغنى قوله تعالى :﴿كالذي خاضوا﴾ عن أن يقال : وخاضوا فخضتم كالذي خاضوا ؟
أجيب : بأنّ فائدة ذلك أن يذم الأوّلين بما مرّ ثم يشبه بعد ذلك حال المخاطبين بحالهم فيكون ذلك نهاية في المبالغة كما تريد أن تنبه بعض الظلمة على قبح ظلمه بقولك : أنت مثل فرعون كان يقتل بغير جرم ويعذب من غير موجب وأمّا ﴿خضتم كالذي خاضوا﴾ فمعطوف على ما قبله مستند إليه مستغن بإسناده إليه عن تلك التقدمة ﴿أولئك﴾ أي : هؤلاء الأشقياء ﴿حبطت﴾ أي : بطلت ﴿أعمالهم في الدنيا﴾ أي : بزوالها عنهم ونسيان لذاتها ﴿والآخرة﴾ أي : وفي الدار الآخرة لأنهم لم يسعوا لها سعيها فلم تنفعهم أعمالهم في الدارين بل يعاقبون عليها وزاد
٧١٧
في التنبيه على بعدهما مما قصدوا لأنفسهم من النفع بقوله تعالى :﴿وأولئك هم الخاسرون﴾ أي : الذين خسروا الدنيا والآخرة والمعنى أنه كما بطل أعمال الكفار الماضين وخسروا تبطل أعمالكم أيها المنافقون وتخسرون.
وفي الالتفات إلى مقام الخطاب إشارة إلى تحذير كل سامع عن مثل هذه المقالة قال بعض كبراء التابعين : أدركت سبعين ممن أدرك النبيّ ﷺ كلهم يخاف النفاق على نفسه وذكر أنّ مالكاً رحمه الله تعالى دخل المسجد بعد العصر وهو ممن لا يرى الركوع بعد العصر فجلس ولم يركع فقال له صبيّ : يا شيخ قم فاركع فقام وركع ولم يحاجه بما يراه مذهباً فقيل له في ذلك فقال : خشيت أن أكون من الذين إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون.
وروي أنه ﷺ قال :"بيننا وبين المنافقين شهود العتمة والصبح لا يستطيعونهما" وقال تعالى :﴿لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى﴾ (التوبة، ٥٤)
ينظر المنافق إلى ما يسقط فضائل أهل الفضل ويتعامى عن محاسنهم.
كما روي أنّ الله تعالى يبغض التارك لحسنة المؤمن الآخذ لسيئته والمؤمن الصادق يتغافل عن مساوى أهل المساوى فكيف بمعايب أهل المحاسن والمنافق يأخذ من الدين ما ينفع في الدنيا ولا يأخذ ما ينفع في العقبى ويجتنب في الدين ما يضر في الدنيا ولا يجتنب ما يضر في العقبى مما لا يضر في الدنيا.
ويذكر أن رجلاً من صلحاء المسلمين دخل كنيسة فقال لراهب فيها : دلني على موضع طاهر أصلي فيه، فقال له الراهب : طهر قلبك مما سواه وقم حيث شئت، قال المسلم : فخجلت منه.
وقوله عز من قائل :
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٧١٧
ألم يأتهم﴾
فيه رجوع من الخطاب إلى الغيبة أي : ألم يأت هؤلاء المنافقين والكفار وهو استفهام بمعنى التقرير أي : قد أتاهم ﴿نبأ﴾ أي : خبر ﴿الذين من قبلهم﴾ من الأمم الماضية الذين خلوا من قبلهم كيف أهلكناهم حين خالفوا أمرنا وعصوا رسلنا، ولما شبه تعالى المنافقين بالكفار المتقدّمين في الرغبة في الدنيا وفي تكذيب الأنبياء والمبالغة في إيذائهم لرسلهم بين منهم ستة طوائف :
الأولى :﴿قوم نوح﴾ أهلكوا بالطوفان.
﴿و﴾ الثانية :﴿عاد﴾ وهم قوم هود أهلكوا بالريح.
﴿و﴾ الثالثة :﴿ثمود﴾، وهم قوم صالح أهلكوا بالرجفة.
﴿و﴾ الرابعة :﴿قوم إبراهيم﴾ أهلكوا بسلب النعمة وأهلك نمروذ ببعوضة سلطها الله تعالى على دماغه فقتلته.
﴿و﴾ الخامسة :﴿أصحاب مدين﴾ وهم قوم شعيب ويقال إنهم من ولد مدين بن إبراهيم أهلكوا بعذاب يوم الظلة.
﴿و﴾ السادسة :﴿المؤتفكات﴾ وهم قوم لوط أي : أهلها أهلكوا بأن جعل الله تعالى أعالي أرضهم سافلها وأمطر عليهم حجارة، وإنما ذكر الله تعالى هذه الطوائف الستة لأن آثارهم باقية وبلادهم بالشام والعراق واليمن وكل ذلك قريب من بلاد العرب فكانوا يمرّون عليهم ويعرفون
٧١٨
أخبارهم وقوله تعالى :﴿أتتهم رسلهم﴾ راجع إلى كل هؤلاء الطوائف ﴿بالبينات﴾ أي : المعجزات الباهرات والحجج الواضحات الدالة على صدقهم فكذبوهم وخالفوا أمرنا كما فعلتم أيها الكفار والمنافقون فاحذروا أن يصيبكم مثل ما أصابهم فتعجل لكم النقمة كما عجلت لهم. وقرأ أبو عمرو بسكون السين والباقون بالرفع ﴿فما كان الله ليظلمهم﴾ بتعجيل العقوبة لهم ﴿ولكن كانوا أنفسهم يظلمون﴾ حيث عرضوها للعقاب بالكفر والتكذيب، ولما بالغ سبحانه وتعالى في وصف المنافقين بالأعمال الفاسدة والأفعال الخبيثة ثم ذكر عقبه أنواع الوعيد في حقهم في الدنيا والآخرة ذكر بعده صفات المؤمنين بقوله تعالى :
﴿والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض﴾ في الدين واتفاق الكلمة والعون والنصرة وهذا في مقابلة قوله تعالى :﴿المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض﴾ (التوبة، ٦٧)
جزء : ١ رقم الصفحة : ٧١٧


الصفحة التالية
Icon