فإن قيل : لم قال تعالى في وصف المنافقين :﴿بعضهم من بعض﴾ وقال في وصف المؤمنين :﴿بعضهم أولياء بعض﴾ ما الحكمة في ذلك ؟
أجيب : بأنه لما كان نفاق الإتباع حصل بسبب التقليد لأولئك الأكابر لسبب مقتضى الهوى والطبيعة والعادة قال فيهم :﴿بعضهم من بعض﴾ ولما كانت الموافقة الخالصة بين المؤمنين بتوفيق الله تعالى وهدايته لا بمقتضى الطبيعة وهوى النفس وصفهم بأنّ بعضهم أولياء بعض فظهر الفرق بين الفريقين وظهرت الحكمة، وقوله تعالى :﴿يأمرون بالمعروف﴾ أي : بالإيمان بالله ورسوله واتباع أمره والمعروف كل ما عرف من الشرع من خير وطاعة ﴿وينهون عن المنكر﴾ أي : الشرك والمعاصي، والمنكر كل ما ينكره الشرع وينفر منه الطبع في مقابلة قوله تعالى في المنافقين :﴿يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف﴾ ﴿ويقيمون الصلاة﴾ أي : المفروضة ويتمون أركانها وشروطها ﴿ويؤتون الزكاة﴾ أي : الواجبة عليهم في مقابلة قوله تعالى في المنافقين :﴿ويقبضون أيديهم﴾ المعبر به عن البخل وقوله تعالى :﴿ويطيعون الله ورسوله﴾ أي : فيما يأمرهم به في مقابلة قوله تعالى في المنافقين :﴿نسوا الله فنسيهم﴾، ولما ذكر تعالى ما وعد به المنافقين من العذاب في نار جهنم ذكر ما وعد به المؤمنين من الرحمة المستقبلة وهي ثواب الآخرة بقوله تعالى :﴿أولئك﴾ أي : المؤمنون والمؤمنات الموصوفون بهذه الصفات ﴿سيرحمهم الله﴾ بوعد لا خلف فيه ﴿إنّ الله عزيز﴾ أي : غالب على كل شيء لا يمتنع عليه ما يريده ﴿حكيم﴾ أي : لا يقدر أحد على نقض ما يحكمه وحل ما يبرمه، ولما ذكر سبحانه وتعالى الوعد على سبيل الإجمال ذكره على سبيل التفصيل بقوله تعالى :
﴿وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار﴾ فذكر في هذه الآية أنّ الرحمة هي هذه الأنواع المذكورة في هذه الآية أوّلها قوله تعالى :﴿جنات تجري من تحتها الأنهار﴾ فهي لا تزال خضرة ذات بهجة نضرة، ولما كان النعيم لا يكمل إلا بالدوام قال تعالى :﴿خالدين فيها﴾ والمراد بالجنات التي تجري من تحتها الأنهار البساتين التي يحير في حسنها الناظر لأنه تعالى قال :﴿ومساكن طيبة في جنات عدن﴾ أي : إقامة وخلود وهذا هو النوع الثاني فتكون جنات عدن هي المساكن التي يسكنونها والجنات الأخر هي البساتين التي يتنزهون فيها فهذه فائدة المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٧١٧
قد كثر كلام أصحاب الآثار في صفة جنات عدن فقال الحسن : سألت عمران بن الحصين عن قوله تعالى :﴿ومساكن طيبة﴾ فقال : سألت رسول الله ﷺ فقال :"قصر في الجنة من اللؤلؤ فيه سبعون داراً من ياقوتة حمراء في كل دار سبعون بيتاً من زمرّدة خضراء في كل بيت سبعون سريراً
٧١٩
على كل سرير سبعون فراشاً على كل فراش زوجة من الحور العين في كل بيت سبعون مائدة على كل مائدة سبعون لوناً من الطعام وفي كل بيت سبعون وصيفة ويعطى المؤمن من القوّة في غداة واحدة ما يأتي على ذلك أجمع"، وعن أبي الدرداء قال : قال رسول الله ﷺ "عدن دار الله التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر" أي : دار الله تعالى التي أعدها لأوليائه وأهل طاعته والمقرّبين من عباده، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قلت : يا رسول الله حدّثني عن الجنة ما بناؤها قال :"لبنة من ذهب ولبنة من فضة وبلاطها المسك الإذفر وتربتها الزعفران وحصباؤها الدر والياقوت فهي النعيم بلا بؤس والخلود بلا موت لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه". وقال ابن مسعود : جنات عدن بطنان الجنة، قال الأزهري : بطنانها وسطها، وقال عطاء عن ابن عباس : هي قصر في الجنة وسقفها عرش الرحمن وهي المدينة التي فيها الرسل والأنبياء والشهداء وأئمة الهدى وسائر الجنان حولها وفيها عين التسنيم وفيها قصور الدر والياقوت والذهب فتهب ريح طيبة من تحت العرش فتدخل عليهم كثبان المسك الإذفر، وقال عبد الله بن عمرو بن العاصي رضي الله تعالى عنهما : إنّ في الجنة قصراً يقال له عدن حوله البروج والمروج له خمسة آلاف باب لا يدخله إلا نبيّ أو صدّيق أو شهيد أو حكم عدل.
وقال عطاء بن السائب : عدن نهر في الجنة قبابه على حافتيه، وقال الرازي : حاصل الكلام أنّ في جنات عدن قولين : أحدهما : أنه اسم علم لموضع معين في الجنة وهذه الأخبار والآثار تقوي هذا القول، وقال في "الكشاف" : وعدن علم بدليل قوله تعالى :﴿جنات عدن التي وعد الرحمن عباده﴾ (مريم، ٦١)
والقول الثاني : أنه صفة الجنة.
قال الأزهري : مأخوذ من قولك : عدن بالمكان، إذا أقام به يعدن عدوناً فبهذا الاشتقاق قالوا الجنات كلها جنات عدن جعلنا الله تعالى ومن نحبه من أهلها وأحل علينا رضوانه فإنه المقصود الأعظم كما قال تعالى :﴿ورضوان من الله أكبر﴾ لأنه المبدأ لكل سعادة وكرامة والمؤدّي إلى نيل الوصول والفوز باللقاء.


الصفحة التالية
Icon