روي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله ﷺ قال :"إنّ الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة، فيقولون : لبيك وسعديك والخير في يديك، فيقول : هل رضيتم، يقولون : وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك، فيقول : أنا أعطيكم أفضل من ذلك، فيقولون : وأيّ شيء أفضل من ذلك ؟
قال تعالى : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً" وهذا هو النوع الثالث وقرأ شعبة ورضوان بضم الراء، والباقون بالكسر ﴿ذلك﴾ أي : الرضوان أو جميع ما تقدّم ﴿هو الفوز العظيم﴾ الذي تستصغر دونه الدنيا وما فيها، ولما وصف الله تعالى المنافقين بالصفات الخبيثة وتوعدهم بأنواع العقاب وكانت عادة الله تعالى في هذا الكتاب
٧٢٠
الكريم جارية بذكر الوعد مع الوعيد لا جرم ذكر عقبه وصف المؤمنين بالصفات الشريفة الطاهرة الطيبة ووعدهم بالثواب الرفيع والدرجة العالية ثم عاد إلى شرح أحوال الكفار والمنافقين بقوله تعالى :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٧١٧
﴿يأيها النبيّ جاهد الكفار﴾ أي : المجاهرين ﴿والمنافقين﴾ أي : الساترين كفرهم بظهور الإسلام.
فإن قيل : الآية تدلّ على وجوب مجاهدة المنافقين وهو غير جائز فإن المنافق كما مرّ من يستر كفره ويقرّ بلسانه ومن كان كذلك لم تجز محاربته ومجاهدته أجيب : بأن ليس في الآية ما يدلّ على أن ذلك الجهاد بالسيف أو باللسان أو بطريق آخر وإنما تدلّ على وجوب الجهاد مع الفريقين وكيفية تلك المجاهدة إنما تعرف من دليل آخر وقد دلت الدلائل المفصلة على أن المجاهدة مع الكفار يجب أن تكون بالسيف ومع المنافقين بالحجة والبرهان وحمل الحسن جهاد المنافقين على إقامة الحدود عليهم إذا تعاطوا أسبابها.
قال القاضي : وهذا ليس بشيء لأنّ إقامة الحدود واجبة على من ليس بمنافق فلا يكون لها تعلق بالنفاق. ولما كان ﷺ مطبوعاً على الرفق وحسن الخلق قال تعالى :﴿واغلظ عليهم﴾ أي : بالانتهار والمقت في الجهادين لا تعاملهم بمثل ما عاملتهم به من اللين عند استئذانهم في القعود وهذا بخلاف ما مضى في وعيد المنافقين حيث قدمهم فقال :﴿المنافقون والمنافقات﴾ فقدم في كل سياق الأليق به ﴿ومأواهم﴾ أي : مسكنهم في الآخرة ﴿جهنم وبئس المصير﴾ أي : المرجع هي.
٧٢١
﴿يحلفون﴾ أي : المنافقون ﴿با ما قالوا﴾ أي : ما بلغك عنهم من السب والمفسرون ذكروا في أسباب نزول هذه الآية وجوهاً.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٧٢١
الأوّل : روي أنه عليه الصلاة والسلام أقام في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن ويعيب المتخلفين فقال الجلاس بن سويد : لئن كان ما يقول محمد في إخواننا الذين خلفناهم بالمدينة حقاً لنحن شرّ من الحمير، فقال عامر بن قيس الأنصاريّ للجلاس : أجل والله إنّ محمداً صادق وأنت شرّ من الحمار، فبلغ رسول الله ﷺ فاستحضره فحلف بالله عز وجل ما قاله فرفع عامر يده وقال : اللهم أنزل على عبدك ونبيك تصديق الصادق وتكذيب الكاذب فنزلت فقال الجلاس : لقد ذكر الله تعالى التوبة في هذه الآية ولقد قلت هذا الكلام وصدق عامر ثم تاب وحسنت توبته.
الثاني : أنها نزلت في عبد الله بن أبي لما قال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. وأراد به الرسول ﷺ فسمع زيد بن أرقم ذلك فبلغه النبيّ ﷺ فهم عمر رضي الله عنه بقتل عبد الله بن أبي فجاء عبد الله بن أبي وحلف أنه لم يقل.
الثالث : روى قتادة أن رجلين اقتتلا أحدهما من جهينة والآخر من غفار وكانت جهينة حلفاء الأنصار فظهر الجهني على الغفاري فقال عبد الله بن أبي للأوس : انصروا أخاكم فو الله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل سمن كلبك يأكلك فسعى بها رجل من المسلمين إلى النبيّ ﷺ فأرسل إليه فسأله فحلف بالله ما قاله فنزلت ﴿ولقد قالوا كلمة الكفر﴾ وهي سب النبيّ ﷺ وقيل : هي كلمة الجلاس بن سويد، وقيل : هي كلمة عبد الله بن أبيّ ﴿وكفروا بعد إسلامهم﴾ أي : وأظهروا كفرهم بعد إظهارهم الإسلام ﴿وهموا بما لم ينالوا﴾ أي : من قتل النبيّ ﷺ عند مرجعه من تبوك توافق خمسة عشر منهم إذا تسنم العقبة أي : علاها بالليل فأخذ عمار بن ياسر بخطام ناقته يقودها وحذيفة خلفها يسوقها فبينما هم كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل وبقعقعة السلاح فالتفت فإذا قوم متلثمون فقال : إليكم إليكم يا أعداء الله، فهربوا.
وقيل : هم المنافقون هموا بقتل عامر حين ردّ على الجلاس.


الصفحة التالية
Icon