﴿قلنا اهبطوا منها﴾ أي : من الجنة ﴿جميعاً﴾ كرّر للتأكيد أو لاختلاف المقصود فإنّ الأوّل دل على هبوطهم إلى دار بلية يتعادون فيها ولا يخلدون، والثاني أشعر بأنهم أهبطوا للتكليف فمن اهتدى لهذا نجا ومن ضله هلك، وقيل : الهبوط الأوّل من الجنة إلى السماء الدنيا، والهبوط الثاني من السماء الدنيا إلى الأرض ﴿فإمّا﴾ فيه إدغام إنّ الشرطية في ما المزيدة ﴿يأتينكم﴾ يا ذرّية آدم ﴿مني هدى﴾ أي : رشد وبيان شريعة، وقيل : كتاب ورسول ﴿فمن تبع هداي﴾ بأن آمن بي وعمل بطاعتي وكرّر لفظ الهدى ولم يضمر إمّا لإظهار شأنه وفخامته خصوصاً مع إضافته إليه، أو لأنه أراد بالثاني أعمّ من الأوّل وهو ما أتى به الرسل واقتضاه العقل أي : فمن تبع ما أتاه راعياً فيه ما يشهد به العقل ﴿فلا خوف عليهم﴾ فضلاً من أن يحل بهم مكروه ﴿ولا هم يحزنون﴾ بفوات محبوب عنهم وهو النظر إلى وجهه تعالى فيحزنوا عليه بل يتنعمون بالنظر إلى وجهه تعالى فإنه المقصود الأعظم فالخوف على الواقع نفى عنهم العقاب فأثبت لهم الثواب على آكد وجه وأبلغه، وقيل : لا خوف عليهم في الدنيا ولا هم يحزنون في الآخرة. وأمال الدوري عن الكسائي ألف هداي محضة، وورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح، وإنما جيء بحرف الشك وإتيان الهدى واقع كائن لأنه محتمل في نفسه غير واجب عقلاً.
﴿والذين كفروا﴾ أي : جحدوا ﴿وكذبوا بآياتنا﴾ أي : كتبنا ﴿أولئك أصحاب النار﴾ يوم القيامة ﴿هم فيها خالدون﴾ ماكثون فيها أبداً لا يخرجون منها ولا يموتون فيها، والآية في الأصل العلامة الظاهرة وتقال للمصنوعات من حيث أنها تدل على الصانع وعلمه وقدرته ولكل طائفة من كلمات القرآن المتميزة عن غيرها بفصل.
تنبيه : في هذه الآيات دلالة على أنّ الجنة مخلوقة وأنها في جهة عالية، وأنّ التوبة مقبولة، وأنّ متبع الهدى مأمون العاقبة، وأن عذاب النار دائم، وأن الكافر فيه مخلد، وأن غيره لا يخلد فيه بمفهوم قوله تعالى :﴿هم فيها خالدون﴾ (المجادلة، ١٧) واستدلّ بعض الخوارج كالحشوية وهم قوم
٦١
جوّزوا الخطاب بما لا يفهم بها على عدم عصمة الأنبياء بوجوه : الأوّل : أنّ آدم عليه السلام كان نبياً وارتكب المنهي والمرتكب له عاص، والثاني : أنه جعله بارتكابه من الظالمين، والظالم ملعون لقوله تعالى :﴿ألا لعنة الله على الظالمين﴾ (هود، ١٨)، والثالث : أنه أسند إليه العصيان وألغي وقال :﴿وعصى آدم ربه فغوى﴾ (طه، ١٢١)، والرابع : أنه تعالى لقنه التوبة وهي الرجوع عن الذنب والندم عليه، والخامس : اعترافه بأنه خاسر لولا مغفرة الله له بقوله :﴿وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين﴾ (الأعراف، ٢٣) والخاسر من يكون ذا كبيرة، والسادس : أنه لو لم يذنب ما جرى عليه ما جرى. وأجيب عن ذلك بوجوه :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦١
الأوّل : أنه لم يكن نبياً حينئذٍ والمدّعي مطالب بالدليل ولا دليل.
الثاني : أن النهي للتنزيه، وإنما سمي ظالماً وخاسراً لأنه ظلم نفسه وخسر حظه بترك الأولى وإنما أجرى الله تعالى ما جرى معاتبة على ترك الأولى ووفاء بما قاله تعالى للملائكة قبل خلق آدم :﴿إني جاعل في الأرض خليفة﴾ (البقرة، ٣٠) ولا يكون خليفة في الأرض إلا بالإهباط إليها، وأمر بالتوبة تلافياً لما فاته.
الثالث : أنه فعله ناسياً لقوله تعالى :﴿فنسي ولم نجد له عزماً﴾ (طه، ١١٥) ولكن عوقب بترك التحفظ عن أسباب النسيان إذ رفع الإثم بالنسيان من خصائص هذه الأمّة كما ثبت في الأخبار الصحيحة كخبر الشيخين :"رفع عن أمّتي الخطأ والنسيان".
وروى الترمذيّ وصححه :"أشدّ الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل" رواه الحاكم بلفظ "أشدّ الناس بلاءً الأنبياء ثم العلماء ثم الصالحون.
الرابع : أنه عليه الصلاة والسلام أقدم عليه بسبب اجتهاد أخطأ فيه فإنه ظنّ أن النهي للتنزيه أو الإشارة إلى عين تلك الشجرة فتناول من غيرها من نوعها، وكان المراد بالإشارة الإشارة إلى النوع لا إلى شجرة معينة كما روى أبو داود وغيره "أنه عليه الصلاة والسلام أخذ حريراً وذهباً بيده وقال : هذان حرام على ذكور أمّتي حلّ لإناثها".
فإن قيل : المجتهد إن أخطأ لا يؤاخذ. أجيب : بأنه إنما عوتب على ذلك تعظيماً لشأن الخطيئة ليجتنبها أولاده. وقرأ ورش بإمالة ألف النار بين بين، وقرأ أبو عمرو والدوري عن الكسائي بالامالة المحضة، والباقون بالفتح.