ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقنّ} فيه إدغام التاء في الأصل في الصاد ﴿ولنكونن من الصالحين﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن ثعلبة بن حاطب أبطأ عنه ماله بالشام فلحقه شدّة فحلف بالله وهو واقف ببعض مجالس الأنصار لئن آتانا الله من فضله لأصدقنّ ولأؤدّينّ منه حق الله تعالى والمشهور في سبب نزول هذه الآية أنّ ثعلبة بن حاطب الأنصاريّ قال : يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالاً فقال له رسول الله ﷺ يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه. فراجعه فقال رسول الله ﷺ "أما لك في رسول الله أسوة حسنة والذي نفسي بيده لو أردت أن تسير الجبال معي ذهباً وفضة لسارت" ثم أتاه بعد ذلك وقال : يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالاً والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالاً لأعطينّ كل ذي حق حقه فقال رسول الله ﷺ اللهم ارزق ثعلبة مالاً فاتخذ غنماً فنمت كما تنمى الدود حتى كثرت ونزل بها وادياً من أودية المدينة واشتغل بها حتى صار يصلي مع النبي ﷺ الظهر والعصر ويصلي في غنمه باقي الصلوات ثم كثرت ونمت حتى تباعد عن المدينة أيضاً فصار لا يشهد إلا الجمعة ثم كثرت ونمت حتى تباعد عن المدينة أيضاً فصار لا يشهد لا جمعة ولا جماعة فكان إذا كان يوم الجمعة خرج يتلقى الناس يسألهم عن الأخبار فذكره رسول الله ﷺ ذات يوم فقال :"ما فعل ثعلبة" فقالوا : يا رسول الله اتخذ غنماً ما يسعها واد فقال رسول الله ﷺ "يا ويح ثعلبة ثلاثاً" فنزلت آية الصدقة فبعث رسول الله ﷺ رجلين لأخذ الصدقة" وكتب لهما أصناف الصدقة وكيف يأخذان وقال لهما :"مرّا بثعلبة وخذا صدقاته فأتياه وسألاه الصدقة وأقرآه كتاب رسول الله ﷺ فقال : ما هذه إلا جزية أو أخت الجزية انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إليّ فانطلقا فاستقبلهما الناس بصدقاتهم ثم رجعا إلى ثعلبة فقال كمقالته الأولى ولم يدفع إليهما شيئاً فرجعا إلى النبيّ ﷺ وأخبراه بالذي صنع ثعلبة فأنزل الله تعالى هذه الآية، وعند رسول الله ﷺ رجل من أقارب ثعلبة فسمع ذلك فخرج حتى أتاه فقال : ويحك يا ثعلبة قد أنزل الله فيك كذا وكذا فخرج ثعلبة حتى أتى النبيّ ﷺ وسأله أن يقبل صدقته فقال : إن الله تعالى منعني من أن أقبل صدقتك، فجعل يحثو على رأسه التراب، فقال ﷺ "لقد قلت لك فما أطعتني" فرجع إلى منزله وقبض رسول الله ﷺ فجاء بها إلى أبي بكر رضي الله عنه فلم يقبلها ثم جاء بها إلى عمر أيام خلافته فلم يقبلها فلما ولى عثمان أتاه بها فلم يقبلها وهلك ثعلبة في خلافة عثمان رضي الله عنه.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٧٢١
فإن قيل : العبد إذا تاب تاب الله عليه فلماذا منع الله تعالى من قبول صدقته أجيب : بأنّ الله تعالى لما قال :﴿خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها﴾ (التوبة، ١٠٣)
وكان هذا المقصود غير
٧٢٣
حاصل في ثعلبة مع نفاقه فلهذا السبب امتنع رسول الله ﷺ من أخذ تلك الصدقة ثم قال الله تعالى :
﴿فلما آتاهم من فضله بخلوا به﴾ أي : منعوا حق الله تعالى منه ﴿وتولوا﴾ عن طاعة الله تعالى ﴿وهم معرضون﴾ أي : عن طاعة الله تعالى.
﴿فأعقبهم﴾ أي : صير عاقبتهم ﴿نفاقاً﴾ متمكناً ﴿في قلوبهم إلى يوم يلقونه﴾ أي : الله يوم القيامة ﴿بما أخلفوا الله ما وعدوه﴾ أي : بسبب إخلافهم ما وعدوه من التصدق والصلاح لأنّ الجزاء من جنس العمل ﴿وبما كانوا يكذبون﴾ أي : يجددون الكذب دائماً مع الوعد ومنفكاً عنه فقد استكملوا النفاق عاهدوا فغدروا ووعدوا فأخلفوا وحدّثوا فكذبوا وقد قال ﷺ "آية المنافق ـ أي : علامته ـ ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان".
﴿ألم يعلموا﴾ أي : المنافقون ﴿إنّ الله يعلم سرّهم﴾ أي : ما أسروا في أنفسهم من النفاق والعزم على إخلاف ما وعدوه ﴿ونجواهم﴾ أي : ما تناجوا بينهم من المطاعن في الدين وتسمية الصدقة جزية وتدبير منعها فكيف يجترؤن على النفاق الذي الأصل فيه الاستمرار والتناجي فيما بينهم مع علمهم بأنّ الله تعالى يعلم ذلك من حالهم كما يعلم الظاهر وأنه يعاقب عليه كما يعاقب على الظاهر ﴿وإنّ الله علام الغيوب﴾ والعلام مبالغة في العالم والغيب ما كان غائباً عن الخلق فكيف يمكن الإخفاء عنه وقوله تعالى :
﴿الذين﴾ مبتدأ ﴿يلمزون﴾ أي : يعيبون ﴿المطوّعين﴾ المتنفلين ﴿من المؤمنين﴾ أي : الراسخين في الإيمان ﴿في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم﴾ أي : طاقتهم فيأتون به ﴿فيسخرون منهم﴾ أي : يستهزؤن بهم والخبر ﴿سخر الله منهم﴾ أي : جازاهم على سخريتهم ﴿ولهم عذاب أليم﴾ على كفرهم وهذا نوع آخر من أعمال المنافقين القبيحة وهو لمزهم لمن يأتي بالصدقات.


الصفحة التالية
Icon