﴿فليضحكوا قليلاً﴾ أي : في الدنيا ﴿وليبكوا كثيراً﴾ أي : في الآخرة ورد بصيغة الأمر ومعناه الإخبار بأنه ستحصل لهم هذه الحالة ودليل ذلك قوله تعالى :﴿جزاء بما كانوا يكسبون﴾ أي : أن ذلك البكاء في الآخرة جزاء لهم على ضحكهم وأعمالهم الخبيث في الدنيا.
روي أن أهل النفاق يبكون في الآخرة في النار عمر الدنيا لا يرقأ لهم دمع ولا يكتحلون بنوم ففرحهم وضحكهم طول أعمارهم في الدنيا قليل بالنسبة إلى الآخرة لأنّ الدنيا فانية والآخرة باقية والمنقطع الفاني بالنسبة إلى الدائم الباقي قليل.
روي عن أنس أنه قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :"يا أيها الناس ابكوا فإن لم تستطيعوا فتباكوا فإنّ أهل النار يبكون حتى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول حتى تنقطع الدموع فتسيل الدماء فتنفرغ العيون حتى لو أن سفناً أجريت فيها لجرت" قال البيضاوي : ويجوز أن يكون الضحك والبكاء كنايتين عن السرور والغمّ والمراد من القلة العدم.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٧٢٤
فإن رجعك﴾
أي : ردّك ﴿ا﴾ من غزوة تبوك ﴿إلى طائفة منهم﴾ أي : ممن تخلف بالمدينة من المنافقين وإنما قال :﴿إلى طائفة منهم﴾ لأنّ منهم من تاب عن النفاق وندم على التخلف أو اعتذر بعذر صحيح، وقيل : لم يكن المخلفون كلهم منافقين وأراد بالطائفة المنافقين منهم ﴿فاستأذنوك للخروج﴾ معك إلى غزوة أخرى بعد تبوك ﴿فقل﴾ يا محمد لهؤلاء الذين طلبوا الخروج معك وهم مقيمون على نفاقهم ﴿لن تخرجوا معي أبداً﴾ أي : في سفر من الأسفار إنّ الله تعالى قد أغناني عنكم وأحوجكم إلي ﴿ولن تقاتلوا معي عدوّاً﴾ إخبار بمعنى النهي للمبالغة وقوله تعالى :﴿إنكم رضيتم بالقعود أوّل مرّة﴾ تعليل له وكان إسقاطهم من ديوان الغزاة عقوبة لهم على تخلفهم وأوّل مرة هي الخرجة إلى غزوة تبوك ﴿فاقعدوا مع الخالفين﴾ أي : المتخلفين عن الغزو من النساء والصبيان وغيرهم، قال الرازي : واعلم أنّ هذه الآية تدل على أن الرجل إذا ظهر له من بعض إخوانه مكر وخداع ورآه مشدّداً فيه مبالغاً في تقرير موجباته فإنه يجب عليه أن يقطع العلقة بينه وبينه وأن يحترز عن مصاحبته، ولما أمر الله تعالى رسوله ﷺ بمنع المنافقين من الخروج معه إلى الغزوات إذلالاً لهم أمره بمنع الصلاة على من مات منهم إذلالاً لهم أيضاً بقوله تعالى :﴿ولا تصل على أحد منهم مات أبداً﴾.
روي أن ابن أبي ـ رأس المنافقين ـ دعا النبي ﷺ في مرضه الذي مات فيه فلما دخل عليه النبيّ ﷺ سأله أن يصلي عليه وإذا مات يقوم على قبره ثم أرسل للنبيّ ﷺ يطلب منه قميصه ليكفن فيه فأرسل إليه القميص الفوقاني فردّه وطلب الذي يلي جلده ليكفن فيه فقال عمر رضي الله عنه : لم تعطي قميصك للرجس النجس ؟
فقال ﷺ "إنّ قميصي لا يغني عنه من الله شيئاً وإني أؤمّل من الله
٧٢٦
أن يدخل في الإسلام كثير بهذا السبب" فيروى أنه أسلم ألف من الخزرج لما رأوه طلب الاستشفاء بثوب رسول الله ﷺ فلما مات جاء ابنه يعرفه وكان ابنه صحابياً خالصاً صالحاً فقال له النبيّ ﷺ "صل عليه وادفنه" فقال : إن لم تصل عليه يا رسول الله لم يصل عليه مسلم فقام عليه الصلاة والسلام ليصلي عليه فقام عمر رضي الله عنه بينه وبين القبلة فنزلت هذه الآية وأخذ جبريل عليه السلام بثوب النبي ﷺ وقال :﴿لا تصل على أحد منهم مات أبداً﴾ قال عمر : فعجبت من جراءتي على النبي ﷺ يومئذ وهذا يدل على منقبة عظيمة من مناقب عمر رضي الله عنه وذلك أنّ الوحي ينزل وفق قوله في آيات كثيرة منها آية أخذ الفدية من أسارى بدر وقد سبق شرحه، ومنها آية تحريم الخمر، ومنها آية تحويل القبلة، ومنها آية أمر النساء بالحجاب، ومنها هذه الآية، فصار نزول الوحي على مطابقة قول عمر منصباً عالياً ودرجة رفيعة له في الدارين ولهذا قال في حقه عليه الصلاة والسلام :"لو لم أبعث لبعثت يا عمر نبياً" وإنما لم ينه ﷺ عن التكفين في القميص ونهى عن الصلاة عليه لأن الضنة بالقميص كانت تخل بالكرم وكان الله تعالى أمره أن لا يردّ سائلاً بقوله تعالى :﴿وأما السائل فلا تنهر﴾ (الضحى، ١٠)
جزء : ١ رقم الصفحة : ٧٢٤


الصفحة التالية
Icon