فإن قيل : كيف يأمر المؤمنين بالإيمان فإنّ ذلك يقتضي الأمر بتحصيل الحاصل وهو محال ؟
أجيب : بأنّ معناه الدوام على الإيمان والجهاد في المستقبل، وقيل : هذا الأمر وإن كان ظاهره العموم لكن المراد به الخصوص وهم المنافقون أي : اخلصوا الإيمان بالله وجاهدوا مع رسوله ﷺ وإنما قدم الأمر بالإيمان على الأمر بالجهاد لأنّ الجهاد بغير الإيمان لا يفيد شيئاً ثم حكى الله تعالى أن عند نزول هذه السورة ماذا يقولون فقال تعالى :﴿استأذنك أولو الطول منهم﴾ قال ابن عباس يعني : أهل الغنى وهم أهل القدرة والثروة والسعة من المال، وقيل : هم رؤساء المنافقين وكبراؤهم ﴿وقالوا﴾ أي : أولو الطول ﴿ذرنا نكن مع القاعدين﴾ أي : الذين قعدوا لعذر كالمرضى والزمنى، وقيل : مع النساء والصبيان ثم ذمّهم الله تعالى بقوله :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٧٢٤
٧٢٨
﴿رضوا بأن يكونوا مع الخوالف﴾ جمع خالفة أي : النساء اللاتي تخلفن في البيوت، وقيل : الخوالف أدنياء الناس وسفلتهم يقال : فلان خالفه قومه إذا كان دونهم وإنما خص أولو الطول بالذكر لأنّ الذم لهم لازم لكونهم قادرين على السفر والجهاد وأمّا من لا مال له ولا قدرة له على السفر فلا يحتاج إلى الاستئذان قال المفسرون : كان يصعب على المنافقين تشبيههم بالخوالف ﴿وطبع﴾ أي : وختم ﴿على قلوبهم﴾ أي : هؤلاء المنافقين ﴿فهم لا يفقهون﴾ أي : لا يعلمون ما في الجهاد من الفوز والسعادة وما في التخلف من الشقاوة والخذلان ولما شرح الله سبحانه وتعالى حال المنافقين من الفرار عن الجهاد بين حال الرسول والذين آمنوا معه بالضدّ منه بقوله تعالى :
﴿لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم﴾ أي : بذلوا المال والنفس في طلب رضوان الله تعالى والتقرب إليه وفي قوله تعالى :﴿لكن﴾ فائدة وهي تقرير أنه وإن تخلف هؤلاء المنافقون عن الغزو فقد توجه إليه من هو خير منهم وأخلص نية واعتقاداً كقوله تعالى :﴿فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً﴾ (الأنعام، ٨٩)، ولما وصفهم الله تعالى بالمسارعة إلى الجهاد ذكر ما حصل لهم من الفوائد والمنافع وهو أنواع : أوّلها : ما ذكره تعالى بقوله سبحانه :﴿وأولئك لهم الخيرات﴾ أي : منافع الدارين النصرة والغنيمة في الدنيا والجنة والكرامة في الآخرة، وقيل : الخيرات الحور العين لقوله تعالى :﴿فيهنّ خيرات حسان﴾ (الرحمن، ٧٠)
جزء : ١ رقم الصفحة : ٧٢٨
ثانيها : ما ذكره الله تعالى بقوله :﴿وأولئك هم المفلحون﴾ أي : الفائزون بالمطالب المتخلصون من العقاب والعتاب وثالثها : ما ذكره بقوله تعالى :
﴿أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم﴾ هذا بيان ما لهم من الخيرات الأخروية.
﴿وجاء المعذرون﴾ بإدغام التاء في الأصل في الذال أي : المعتذرون بمعنى المعذورين ﴿من الأعراب﴾ إلى النبي ﷺ ﴿ليؤذن لهم﴾ في القعود لعذرهم فأذن لهم واختلف في هؤلاء المعذرين فقيل : هم أسد وغطفان قالوا : إنّ لنا عيالاً وإن بنا جهداً فائذن لنا في التخلف، وقيل : هم رهط
٧٢٩
عامر بن الطفيل قالوا : إن غزونا معك أغارت أعراب طيء على أهالينا ومواشينا فقال ﷺ "سيغنيني الله عنكم" وقيل : نفر من غفار اعتذروا فلم يعذرهم الله، وعن قتادة : اعتذروا بالكذب والاعتذار في كلام العرب على قسمين : يقال : اعتذر إذا كذب في عذره ومنه قوله تعالى :﴿يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم﴾ (التوبة، ٩٤)
فردّ الله تعالى عيهم بقوله :﴿قل لا تعتذروا﴾ (التوبة، ٩٤)
فدلّ ذلك على فساد عذرهم وكذبهم فيه. ويقال : اعتذر إذا أتى بعذر صحيح كما في قول لبيد :
*ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر*
يريد : فقد جاء بعذر صحيح. وقيل : هو التعذير الذي هو التقصير، يقال : عذر يعذر إذا قصر ولم يبالغ فعلى هذا المعنى يحتمل أنهم كانوا صادقين في اعتذارهم وأنهم كانوا كاذبين، ومن المفسرين من قال : إنهم كانوا صادقين بدليل أنه تعالى لما ذكره قال بعده :﴿وقعد الذين كذبوا الله ورسوله﴾ أي : في ادعاء الإيمان من منافقي الأعراب عن المجيء للاعتذار فلما فصل بينهم وميزهم عن الكاذبين دل ذلك على أنهم ليسوا كاذبين.
ويروى عن عمرو بن العلاء أنه لما قيل له هذا الكلام فقال : إن أقواماً تكلفوا عذراً بباطل فهم الذين عناهم الله تعالى بقوله :﴿وجاء المعذرون﴾ وتخلف الآخرون لا لعذر ولا لشبه عذر جراءة على الله وهم المراد بقوله تعالى :﴿وقعد الذين كذبوا الله ورسوله﴾ ﴿سيصيب الذين كفروا منهم﴾ أي : من الأعراب أو من المعذرين فإن منهم من اعتذر لكسله لا لكفره ﴿عذاب أليم﴾ في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٧٢٨


الصفحة التالية
Icon