ولما بين سبحانه وتعالى الوعيد في حق من توهم العذر مع أنه لا عذر له ذكر أصحاب الأعذار الحقيقة وبين أن تكليف الله تعالى بالغزو والجهاد عنهم ساقط بقوله تعالى :﴿ليس على الضعفاء﴾ كالشيوخ ومن خلق في أصل الفطرة ضعيفاً نحيفاً ﴿ولا على المرضى﴾ كالزمنى والعرج والعمي ﴿ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون﴾ في الجهاد ﴿حرج﴾ أي : إثم في التخلف عنه فنفى سبحانه وتعالى عن هذه الأقسام الثلاثة الحرج فيجوز لهم أن يتخلفوا عن الغزو وليس في الآية بيان أنه يحرم عليهم الخروج لأنّ الواحد من هؤلاء لو خرج ليعين المجاهدين بقدر قدرته إما لحفظ متاعهم أو لتكثير سوادهم بشرط أن لا يجعل نفسه كلاً ووبالاً عليهم كان ذلك طاعة مقبولة ثم إنه سبحانه وتعالى شرط في جواز هذا التأخر عن الغزو شرطاً بقوله :﴿إذا نصحوا ورسوله﴾ في حال قعودهم بالإيمان والطاعة في السرّ والعلانية وأن يحترزوا عن إلقاء الإرجافات وعن إثارة الفتن ويسعوا في إيصال الخير إلى المجاهدين الذين سافروا إما أن يقوموا بإصلاح مهمات بيوتهم وإما أن يسعوا إلى إيصال الأخبار السارة من بيوتهم إليهم فإن جملة هذه الأمور جارية مجرى الإعانة على الجهاد وقوله تعالى :﴿ما على المحسنين﴾ في موضع ما عليهم لبيان إحسانهم بنصحهم مع
٧٣٠
عذرهم ﴿من سبيل﴾ أي : طريق إلى ذمهم أو لومهم والمعنى أنه سدّ بإحسانه طريق العتاب ومن أعظم الإحسان من شهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله مخلصاً من قلبه فإن ما عليه من سبيل في نفسه وماله لإباحة الشرع بدليل منفصل إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والمحسن هو الآتي بالإحسان ورأس أبواب الإحسان ورئيسها هو قول : لا إله إلا الله محمد رسول الله ﴿وا غفور﴾ أي : محاء للذنوب ﴿رحيم﴾ أي : بجميع عباده، وفي ذلك إشارة إلى أن الإنسان محل التقصير وإن اجتهد فلا يسعه إلا العفو ولما ذكر الله سبحانه وتعالى الضعفاء والمرضى والفقراء وبين أنه يجوز لهم التخلف عن الجهاد بشرط أن يكونوا ناصحين لله ورسوله وهو كونهم محسنين وأنه ليس لأحد عليهم سبيل ذكر قسماً رابعاً من المعذورين بقوله تعالى :
﴿ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم﴾ إلى الغزو وهم البكاؤن سبعة من الأنصار معقل بن يسار وصخر بن خنساء وعبد الله بن كعب وسالم بن عمير وثعلبة بن غنمة وعبد الله بن مغفل وعلية بن زيد أتوا رسول الله ﷺ وقالوا : بدرنا بالخروج أي : أسرعنا فاحملنا على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة نغزو فقال رسول الله ﷺ "لا أجد ما أحملكم عليه" فتولوا وهم يبكون ولذلك سموا البكائين وقيل : هم بنو مقرن من مزينة وكانوا ثلاثة أخوة معقل وسويد والنعمان وقيل : أبو موسى وأصحابه وقيل : نزلت في العرباض بن سارية، ويحتمل أنها نزلت في كل من ذكر، وقوله تعالى :﴿قلت لا أجد ما أحملكم عليه﴾ حال من الكاف في أتوك بإضمار قد وقوله تعالى :﴿تولوا﴾ جواب إذا ﴿وأعينهم تفيض﴾ أي : تسيل ﴿من الدمع﴾ أي : دمعها فان، ومن للبيان كقولك : أفديك من رجل، وهو أبلغ من يفيض دمعها لأنه يدلّ على أن العين صارت دمعاً فياضاً وقوله تعالى :﴿حزناً﴾ منصوب على العلة ﴿أن لا يجدوا﴾ أي : لئلا يجدوا محله نصب على أنه مفعول له وناصبه المفعول له الذي هو حزناً ﴿ما ينفقون﴾ في الجهاد ولما قال تعالى :﴿ما على المحسنين من سبيل﴾ قال تعالى في حق من يعتذر :﴿ولا عذر له﴾.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٧٢٨
إنما السبيل﴾
أي : إنما يتوجه الطريق بالعقوبة ﴿على الذين يستأذنونك﴾ يا محمد في التخلف عنك والجهاد ﴿وهم أغنياء﴾ أي : قادرون على أهبة الخروج معك وقوله تعالى :﴿رضوا بأن يكونوا مع الخوالف﴾ استئناف كأنه قيل : ما بالهم استأذنوا وهم أغنياء فقيل : رضوا بالدناءة والضعة والانتظام في جملة الخوالف وهم النساء والصبيان ﴿وطبع الله على قلوبهم﴾ فلأجل ذلك الطبع قال الله تعالى :﴿فهم لا يعلمون﴾ أي : ما في الجهاد من منافع الدارين، أمّا في الدنيا فالفوز بالغنيمة والظفر بالعدو، وأمّا في الآخرة فالثواب والنعيم الدائم الذي لا ينقطع.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٧٢٨
﴿يعتذرون﴾ أي : هؤلاء المنافقون ﴿إليكم﴾ أي : في التخلف ﴿إذا رجعتم﴾ من الغزو ﴿إليهم﴾ بالأعذار الباطلة والخطاب للنبي ﷺ وإنما ذكره بلفظ الجمع تعظيماً له ويحتمل أن يكون له وللمؤمنين.
يروى أن الذين تخلفوا عن غزوة تبوك من المنافقين كانوا بضعة وثلاثين رجلاً فلما رجع النبيّ ﷺ جاؤوا يعتذرون إليه بالباطل قال تعالى :﴿قل﴾ لهم يا محمد ﴿لا تعتذروا﴾ بالمعاذير الباطلة ﴿لن نؤمن لكم﴾ أي : لن نصدّقكم فيما اعتذرتم به وقوله تعالى :﴿قد نبأنا﴾ أي : أعلمنا ﴿الله من أخباركم﴾ أي : بعض أحوالكم التي أنتم عليها من الشرّ والفساد علة لانتفاء تصديقهم لأنّ الله
٧٣١


الصفحة التالية
Icon