تعالى إذا أوحى إلى رسوله ﷺ الإعلام بأحوالهم وما في ضمائرهم من الشرّ والفساد لم يستقم مع ذلك تصديقهم في معاذيرهم ﴿وسيرى الله علمكم ورسوله﴾ أي : أتتوبون من نفاقكم أم تقيمون عليه ﴿ثم تردّون﴾ أي : بالبعث ﴿إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون﴾ أي : الله المطلع على ما في ضمائركم من الخيانة والكذب وإخلاف الوعد وغير ذلك من الخبائث التي أنتم عليها فيجازيكم عليه.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٧٣١
وسيحلفون با لكم إذا انقلبتم﴾
أي : رجعتم ﴿إليهم﴾ من تبوك إنهم معذورون في التخلف ﴿لتعرضوا عنهم﴾ أي : لتصفحوا عنهم فلا تعاتبوهم ﴿فأعرضوا عنهم﴾ أي : فدعوهم وما اختاروا لأنفسهم من النفاق، قال ابن عباس : يريد ترك الكلام والسلام قال مقاتل : قال النبيّ ﷺ حين قدم المدينة :"لا تجالسوهم ولا تكلموهم" قال أهل المعاني : هؤلاء طلبوا إعراض الصفح فأعطوا إعراض المقت ثم ذكر تعالى علة الإعراض بقوله :﴿إنهم رجس﴾ أي : قذر لخبث باطنهم فكما يجب الاحتراز عن الأنجاس الجسمانية يجب الاحتراز عن الأرجاس الروحانية خوفاً من سريانها إلى الإنسان وحذراً من أن يميل طبع الإنسان إلى تلك الأعمال وقوله تعالى :﴿ومأواهم جهنم﴾ من تمام العلة ﴿جزاء بما كانوا يكسبون﴾ من الأعمال الخبيثة في الدنيا واختلفوا فيمن نزلت فيه هذه الآية فقال ابن عباس : نزلت في الجد بن قيس ومعتب بن قشير وأصحابهما كانوا ثمانين رجلاً من المنافقين فقال النبيّ ﷺ حين قدم المدينة :"لا تجالسوهم ولا تكلموهم" وقال مقاتل : نزلت في عبد الله بن أبيّ حلف للنبي ﷺ بالله الذي لا إله إلا هو لا يتخلف عنه بعدها وطلب من النبيّ ﷺ أن يرضى عنه فأنزل الله تعالى هذه الآية ونزل.
﴿يحلفون لكم لترضوا عنهم﴾ أي : يحلف لكم هؤلاء المنافقون لترضوا عنهم بحلفهم فتستديموا عليهم ما كنتم تفعلون بهم ﴿فإن ترضوا عنهم﴾ أي : فإن رضيتم عنهم أيها المؤمنون بما حلفوا إليكم وقبلتم عذرهم ﴿فإنّ الله لا يرضى عن القوم الفاسقين﴾ لأنه تعالى يعلم ما في قلوبهم من النفاق والشك فلا يرضى عنهم والمقصود من الآية عدم الرضا عنهم والاغترار بمعاذيرهم بعد الأمر بالإعراض عنهم وعدم الالتفات نحوهم.
ونزل في سكان البادية :
﴿الأعراب﴾ أي : أهل البدو ﴿أشدّ كفراً ونفاقاً﴾ أي : من أهل الحضر لجفائهم وغلظ طباعهم وبعدهم عن أهل العلم وقلة استماعهم الكتاب والسنة واستيلاء الهواء الحار اليابس عليهم وذلك يوجب مزيد التيه والتكبر والنخوة والفخر والطيش عليهم وليسوا تحت سياسة سائس ولا تأديب مؤدّب ولا ضبط ضابط فنشؤوا كما شاؤوا ومن كان كذلك خرج على أشدّ الجهات نفاقاً ولو قابلت الفواكه الجبلية بالفواكه البستانية لعرفت الفرق بين أهل الحضر وأهل البادية.
قال العلماء من أهل اللغة : يقال : رجل عربي إذا كان له نسب في العرب وجمعه العرب كما يقال : مجوسي ويهودي ثم تحذف ياء النسب في الجمع فيقال : المجوس واليهود ورجل أعرابي بالألف إذا كان بدوياً يطلب مساقط الغيث والكلأ وسواء كان من العرب أم من مواليهم ويجمع
٧٣٢
الأعرابي على الأعراب والأعاريب.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٧٣١
والأعرابي إذا قيل له : يا عربي فرح والعربي إذا قيل له : يا أعرابي غضب له فمن استوطن القرى العربية فهم عرب ومن نزل البادية فهم أعراب والذي يدل على الفرق بينهما أنه ﷺ قال :"حب العرب من الإيمان" وأما الأعراب فقد ذمّهم الله تعالى في هذه الآية.
وقيل : سموا بالعرب لأنّ ألسنتهم معربة عما في ضمائرهم ولا شك أنّ اللسان العربي مختص بأنواع من الفصاحة والجزالة لا توجد في سائر الألسنة.
قال الرازي : ورأيت في بعض الكتب عن بعض الحكماء أنه قال : حكمة الروم في أدمغتهم وذلك لأنهم يقدرون على التركيبات العجيبة، وحكمة الهند في أوهامهم، وحكمة اليونان في أفئدتهم وذلك لكثرة ما لهم من المباحث العقلية، وحكمة العرب في ألسنتهم وذلك لحلاوة ألسنتهم وعذوبة عباراتهم ثم حكم الله تعالى على الأعراب بحكم آخر بقوله تعالى :﴿وأجدر﴾ أي : أحق وأولى ﴿أن﴾ أي : بأن ﴿لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله﴾ من الأحكام والشرائع فرائضها وسننها ﴿وا عليم﴾ بما في قلوب عباده ﴿حكيم﴾ فيما فرض من فرائضه وأحكامه.


الصفحة التالية
Icon